علي العقباني
ترسم كأنّها تروي حكاية الكائن وما سيكون قبل وبعد، كأنّها تعرفه وتروي قطعاً من روح ولون على قماش أبيض، وكأنّها ترسم على جدران الكهوف حكاية الحياة والخوف والصيد والمرأة ببدائيّة ووحشيّة، لكن بجمال باذخ اللون والتشكيل، باذخ المعنى والحياة، صاعداً بمتلقيه نحو تأويلات كثيرة وبأساليب متنوعة، مجرّبة وذاهبة نحو تخوم الفن في أعلى تجلياته الفطريّة، كائنات مدهشة سواء في لوحة بورتريه أو لوحة صغيرة بتكوين واحد، أو كبيرة بشخوص وحكايات فإنَّ الحكاية هنا مخبَّأة في تتبع التفاصيل وتفكيكيها وإعادة ترتيبها، وكأنّنا نقرأ نصّاً بصريّاً بكل ما تحمله الكلمات والحروف من جماليات السرد وبذخ اللغة، وكأنّنا أمام رواية تشكيليّة مفتوحة على عوالم الحياة المتنوعة.
سراب الصفدي فنانة تشكيليّة من مواليد دمشق، تخرّجت من كلية الفنون الجميلة عام 1996 - جامعة دمشق، تعمل لدى وزارة الثقافة، شاركت في معارض كثيرة منها: معرض ثنائي في بيت السباعي عام 1998، معرض في بيروت عام 2002، مشاركة في المعارض السنويّة منذ عام 2000 إلى 2007، ومعارض كثيرة في صالات دمشق وبيروت الكويت واليونان ومناسبات كثيرة، فضلاً عن مشاركات جماعيَّة كثيرة ولافتة.
وعن تأثير دراستها والمدارس التي تأثرت بها والمشاهدات، تقول سراب: "لقد تعرفت على جميع المدارس الفنيَّة والمذاهب والطرق التي يتعامل بها أي فنان مختص في كل مدرسة، إذ تأثرت ألواني ودراساتي بالمدرستين التعبيريَّة والانطباعيَّة".
تلتقط الصفدي الحالة السوريَّة بحساسيَّة عالية تلامس الوجع والتاريخ والإنسان بتعبيريَّة عالية ترسم عمق الحدث ملتقطة عوالمه وتفاصيله عبر نصوص بصريَّة مدهشة، مانحة للأنثى السورية والأم موقع الصدارة في زمن مرير ومحتضر على أبنائه، حساسيَّة تسجل اللحظة والمكان ليس بميكانيكيَّة مباشرة، وإنّما بتنوع مدهش وعمق وسيرورة تغالب اللحظة الآنيَّة نحو عمق تاريخي واستمراريَّة حدثيَّة نابعة من استمرار الحدث وتلويناته المتعددة، إنّها محاولة لأسطرة الحكاية المريرة من
جدران الكهوف حتى اليوم. تبدو اللوحة المشرعة بياضها لكل أشكال التعبير والتجريب لدى سراب، وكأنّها الملجأ الأخير من التعب والإحساس باللا جدوى فيما يحدث حولها، وحدث من حرب ودمار وزلزال وقسوة عيش وحال بلاد ممزقة وأنثى تعيش قسوة تلك الحياة، وما يضغط على الروح والدماغ والجسد، فتحاول التعبير عن تلك الهواجس والكوابيس وفق كولاجات تبدو كفسيفساء بصري وتكويني وموضوعي.
تعد الصفدي نفسها من المناصرين لفكرة أنَّ المرأة قادرة على تغيير حياة من حولها بحسب الحالة التي تمرّ بها؛ لذلك يجب قراءتها جيداً؛ وهي تعبر عن ذلك من خلال لوحات كثيرة مستخدمة الفسيفساء وقصاصات الورق، وتعكس عبر علاقة الأنثى مع الأنثى كيف تعيش وتتوازن مع نفسها في ظل الضغوطات من حولها، وكأنّها، كما تقول "إنّني أبحث عن دواخل النفس البشريَّة لأنّها عوالم غامضة، هي دراما لحياتنا نحتاج إلى تسجيلها عبر الفن".. وسراب هنا في عملها التشكيلي تجري دراسات حول الحالة والتكوينات والتعبيرات والدلالات والألوان الفاتحة، بما يمنح إحساساً بالانكسار والشموخ والوحدة والحالة التي تريد أن تعبر عن نفسها وعن المرأة التي تريد من خلالها أن تروي حكايات كثيرة.
خاضت الصفدي تجارب في الرسم ونوّعت في أساليبها وموادها وموضوعاتها، وقد لفت النظر تجربة رسم البورتريه الخاص الذي قامت فيه بالفحم ولاقت أصداءً لفكرتها وطريقة تعاملها مع الوجوه والدقة في الالتقاط.
ربما تجاور أو تتحسس الصفدي أنشودة عشتار "أنا العروس أنا الزوجة وأنا العذراء أنا الأم وأنا الابنة وكثر هم أبنائي" سواء في علاقتها بالحياة والعيش أم بالفن الذي تحاول أن تذهب به إلى أقصى التجريب والدهشة بحثاً عن جمالياتها الخاصة وتقاطعاتها السرديَّة مع الأسطورة والخلق والمرأة بحثاً عن أسطورتها الخاصة والتي شكلتها عبر سنوات من الفن والعمل والحلم والاستغراق في البحث والأسئلة ومحاولة الإمساك بجوهرها كما تحب
وتحلم.