البهلوان.. ملامحٌ مجتمعٍ جديد

ثقافة 2023/10/16
...

  باسم عبد الحميد حمودي

في روايته الساخنة الأحداث والصادرة عن دار النخبة بالقاهرة يقدم الروائي احمد خلف تجربة سرديّة جديدة وشجاعة في البحث في دواخل الشوارع الخلفية لمجتمع الوفرة الجديد، حيث تحركت الطبقات بنسق مغاير اقتضته وسائل العمل الجديدة ومناخات التفكير والسلوك الإنساني.
أحمد خلف يرسم بمهارة خطوط الحركة الإنسانيّة عراقياً وسط لجة من صراعات العمل الحثيث من أجل السطوة والمال والجاه فيما كانت العاطفة قد احتلت لدى بعض الشخوص المرتبة الثانية في دافع العطاء الإنساني.
 لم يكن الروائي، فنان القصة القصيرة منذ (خوذة لرجل نصف ميت) مروراً بروايته المبهرة (موت الأب) وعشرات الأعمال الأخرى بحاجة إلى تكرار ذاته في تجربته الروائية الجديدة، بل كان يؤشر قدرته على اقتراف الجديد من مظاهر الشعلة الدرامية التي تتوهج داخله وفي عقله المبدع الذي قدم لنا في (البهلوان) نماذج من إرادات الطبقات المؤثرة الجديدة التي أفقدت البهجة الإنسانية معناها وتحركت وسط واقع ملغوم.. ضعفت فيه النوايا الطيبة للخاصة، وصعدت من وتائر الصراع داخل أقسام شطر من المجتمع.. هو شطر المقاولين وأتباعهم، والجهات التي تعمل خلفهم لتسرق وتقتل وتبتز.
دخل أحمد خلف في روايته هذه في عشِّ الزنابير التي لا تلسع فقط، بل تقتل برهاوة خطيرة.. وتركض وراء إنسان ما لتضع عليه إشارة التهديد بالاتهام بالقتل وهو بريء لتبتزه وتنال منه وهي تحرك خيوط اللعبة داخل الوسط الاجتماعي باقتدار.
أنموذجا المقاول طه جواد وغريمه (صديقه السابق وحليفه) أسطة محمود اللذان تصدرا الأداء الروائي كان أساس التشخيص الدرامي على (ستيج) الرواية.. على أرض مسرح الرواية.. في وقت تسود فيه قدرة أحمد خلف المدهشة على استنطاق الواقع وكشف زواياه عبر (مانفيستو) متعب ودموي وحقيقي عبر الانتر مونولوغ.. هذه اللعبة الدرامية التي يتقنها الروائي تماماً منذ أن خاض عباب الستينات.. بحر الرواية المدهش.
تبدو (الوقائع) المضمرة ظاهرة عبر مخاطبة النفس داخلياً.. استنطاق الهواجس وتجسيد الأحلام الغافية وتصوير تضارب المشاعر واشتداد أزمات البشر عبر الصراع داخل الذات.. والصراع مع الآخر.. وكشف نواياه.
واذا كان طه علوان الذي كشف ألاعيب الملا أبي الخير واستمرار ابتزازه في موضوع خطف صديقه وغريمه في آن واحد الأسطة محمود وتابعه وسام، لا يستطيع إلّا الانصياع لمطالب أبي الخير ودفع أتاوة الملايين ليفك الخاطفون أسره وتبيض ساحته، فإن أبا الخير وتابعه (من رجال المكاتب الاقتصادية) لا يتركه وشأنه حول علاقته باختفاء التابع وسام... إنّه يحاول ابتزازه أيضا بالاتفاق مع مسؤول فاسد واتهامه بقتله، لولا صديقه سالم علوان الذي حذره من لعبة الابتزاز والاتهام بالتهديد والصمود بوجه المتآمرين لسلب
ملايينه.
كان وسام مقتولاً من قبل الخاطفين ولا دخل لطه بالأمر سوى محاولة ابتزازه من جديد من قبل أبي الخير وتابعه والشرطي الفاسد.
تقول له دخيلته (ص259):
أقبل بما قسم لك الله من محنة عجيبة لا تدرك أبعادها الخفية يا مسكين
أعلم أنك تتعامل مع حيوانات كاسرة ومفترسة لا تهدأ تلتهم حتى العظم... ألم تسمع بالحيتان الكبيرة والصغيرة؟
تذكر ساعة أطلقت ساقيك للريح وهربت، لأنّك مطلوب منكذار من شيخ العشيرة وتقبيل يديه
تلك روحك الحقة التي لم تكن تستسلم لأحد مهما كانت منزلته ومكانته.
وهنا يستذكر طه كلمات صديقه ذي الفكر الماركسي (سالم علوان) الذي قال له (ص260)
- (أنت في القوانين العلميّة تعتبر خائن طبقتك ومتستراً على أفعال سيئة لطبقة أخرى غير انتسابك للفقراء والمعدمين الذين عشت معهم في الحيدرخانة ومنطقة الميدان)
هنا يسخر طه من كلام سالم فقد مضى بعيداً وسط طبقة المقاولين الجديدة المستفيدة من ألعاب السوق والداخلين في لعبة الصراع على المغانم وخوض مباريات الارتزاق والسحت الحرام.
ينصاع لطلبات بلقيس الجميلة وطفلتها ياسمين، ويسكت عن عدوان سائقه السابق (مراد) على زوجته الأولى (أم غايب) العاقر ما دامت قد تعلقت بطفلة تربيها (أزهار).. وتمضي الحياة عنده باعتباره (بهلوان) عصره الذي يصنع لكل حالة حلا لها ويسايرها في سبيل المغانم والملذات واقتناص
الفرص.
تلك الحياة تمشي في رواية أحمد خلف الحافلة بالتفاصيل الكاشفة لصراعات مجتمعه، الوفرة، انهيار قيم وبروز أخرى عبر حالات من الشحن المثير الذي يمارسه الروائي الكبير للكشف عن كوامن المجتمع الجديد الذي يبنى على أنقاض قيم ومبادئ أخرى..
مدينة أحمد خلف الجديدة في (البهلوان) ضربة استثنائية بريشة معلم مبهر من كبار معلمي الرواية العراقية الجديدة.