زهير الجبوري
تميز العمل المسرحي (أنا.. ماكبث) الذي عرض في مسرح الرشيد مؤخرا، بثيمة افتراضيّة اشتغل عليها المؤلف منير راضي، وطبقها المخرج طلال هادي، وهي إذ تناقش عوالم العالم السفلي عبر استدعاءات مخلقة، فقد أعطت بُعداً مضمونياً له تحليله الخاص، بل كانت فكرة الاستدعاء التي أنطوت عليها لعبة المحاكمة، فكرة حاضرة ومجددة لاستنهاض الشخصية المحورية (ماكبث) الذي لعب دوره الفنان زمن علي، واحالة الموضوع في خانة التجديد المعاصر. فهو إذن (ماكبث) الآن، عبر قرون، المطالب بإعادة محاكمته.
فالافتراض في الأداء والصياغة والفكرة، هو إعادة صياغة التاريخ الذي كتبه شكسبير ذاته في العمل الأول، وهي لعبة تداوليّة غاية الدقة، فلم يكن البُعد الفنتازي والاستعادة الرمزية للزمن الشكسبيري وما جاءت به حقائقه التي أسست لاشتغال كولنيالي، المؤلف أراد أن يفتح العلامات التي أغلقت مسألة قتل الملك (دنكان) الذي لعب دوره احمد محمد صالح، فكان ضرب الحقيقة واستعادة المسألة عبر احتجاج (ماكبث) وبراءته، هي استعادة الزمن وتخليق الموضوع من وجهة نظر معاصرة، وهذا ما يؤكد أن (التاريخ ليس فيه حقائق جازمة) بخاصة عندما يتأطر بتجارب ثقافية.
ومنذ بداية العرض ودخول الساحرات (اللواتي قدمن أروع أداء بمهارة وبداهة عالية/ تبارك طلال وفيروز طلال وداليا طلال)، كانت الاجواء مشحونة بصراع وعصف، غير أن ذلك خفف تدريجيا، ليتحول العرض عبر الساحرات الثلاث إلى حوار ونقاش بدافع الحبكة، وإدارة اللعبة وتقليب الحقائق، فالمحاكمة استرخت باثارة الأسئلة، واستحضار شكسبير الذي لعب دوره حميد عباس، ومثوله هو جزء من ضرب الحقيقة (المستعادة)، فالحوار بين الملكة التي لعبت دورها ايمان عبد الحسن وبين الملك وماكبث، يعيد قناعتنا بقبول الفكرة (الملكة: إنها أساطير../ ماكبث: إنها نبوءة ../ الملك: إنها فتنة)، تبدو للوهلة الأولى لعبة وجوديّة، غير أنها تدوير الحقيقة بافتراض المؤلف، فمواجهة الأطراف جميعها بالزّي الذي يوحي أنهم من عالم غير محسوس (عالم سفلي) تعد قراءة (ما بُعديّة)، فلو أضيف لها التسجيل الرقمي (الداتاشو)، لأعطى بُعداً أكثر افتراضيَّة.
الحوار الإشكالي بين شخوص المسرحية انطوى على (فونيميَّة) أكثر منه علامة شكلية، ومع ارتداء (ماكبث.. والملك دنكان.. والملك الحاكم) اللون الأحمر (الرداء) الذي يمثل دلالة العالم السفلي، كان لا بدَّ من الأداء على شكلية العلامة، لتتضح للآخر المتلقي مدى الإشارة إلى هذه الثيمة، أو بالأحرى لتفعيل التحولات المشهديّة إلى صور رمزيّة فاعلة، لذا أزعم أن الّلعبة المسرحيّة هذه بمعاصرتها يمكن إمساكها والإشارة إليها من خلال ذلك، كذلك للتوابيت التي نصبت في منتصف المسرح، يمكن لها أن توظف كعتبةٍ للمحاكمة، ويعد هذا من وسائل اللعب الإخراجي فضلا عن خلق ملامح لأثر شكسبير (الشاعر، والكاتب المسرحي) وتفعيل خطابه
الثقافي المعروف، لا أن يقف مُتَهَمَاً فحسب، حتى حين سأله (ماكبث).. (أيها الشاعر .. في أيّ مكان كتبتني وقتلتني)، في الحقيقة هو استنهاض نصي/ ثقافي، أخذ على عاتقه شكل الافتراض في الكتابة أولا، وفي الأداء تمثيلا ثانيا، لأنَّ (كل الأشياء من صنع خيال شكسبير)، كما أن استعادة الزمن والاشتغال على تفعيل ما جاء به شكسبير برؤيا استحداثية معاصرة، (هي دعوة لأن يكون شكسبير كولينيالي) بحسب د. محمد أبو خضير، وهي قراءة تتناقل عبر الأزمان ذات طابع متوالد، بل ضرب من ضروب الحقائق المتوارثة ثقافياً، لأنّها مسألة باقية في القضية المسرحية منذ قرون.
في آخر العرض يخرج صوت من الأعلى (أنا الملك.. أطالب بالقصاص للقتلة)، ثم يردف (اختلفت الحكايا والرؤيا بين الأمس واليوم)، ثم تسدل من أعلى منتصف المسرح ساعة بحجم كبير، دلالة على انفتاح الزمن، وانحسار الوقت الآني، ويمكن إعادته في مرحلة لاحقة، وهنا تكمن ثيمة العمل بكليته، وباختلاف رؤيته التي أرادها المؤلف، وبالرؤيا العامة التي تجعل الأداءات مادة مرنة خاضعة للاضافة والاختلاف، حتى الشفرات المضافة التي جاءت على لسان الساحرات (للحداثة وما بعد الحداثة)، هي انعطافة دقيقة تثير المتلقي بوصفه الشاهد على التحولات الفكريّة والجماليّة، ومن ثم يظهر (ماكبث) في زمن عولمي وبأداء معاصر.. ككل، قدمت مسرحية (أنا.. ماكبث) أسئلة انطوت على إثارة الواقع وغرائبية التاريخ (المدون) الخاضع للإضافة والحذف (بتصرف)، ناهيك عن (السينوغرافيا) التي شكلت تأثيثاً للبياض الدال على عدمية الواقع، كذلك الموسيقى والإضاءة المنضبطتان، كل ذلك ينبئ عن احترافية العمل التابع للفرقة الوطنية للتمثيل.