ملح البحر.. اشتراطات السينما الجريئة

ثقافة 2023/10/16
...

  عدنان حسين أحمد

تستلهم المخرجة اللبنانية ليلى بسمة فيلمها الثالث "ملح البحر" من حياتها الشخصية، فقد كانت تتنازعها رغبتان متضادتان في الرحيل والبقاء على حدٍ سواء، ولعل هذا الهاجس موجود لدى الكثير من اللبنانيين، الذين ضاقت بهم سبل العيش فلم يجدوا بُدا من الهجرة إلى أصقاع الله الواسعة بحثا عن الحرية، والعمل، والعيش الكريم. وبمقابل هذه الهجرة الاضطرارية ثمة نزوع للبقاء في أحضان الوطن الدافئة وربوعه الجميلة، الأمر الذي يضع صاحبها بين مطرقة الغربة وسندان الحنين إلى الوطن فهم يحبّون الوطن، لكنهم مضطرون لمغادرته.
ينتمي هذا الفيلم الدرامي القصير إلى "سينما المؤلف"، فليلى بسمة هي التي كتبت السيناريو ومَنتجت الفيلم وأخرجته بطريقتها الخاصة، التي لا تنقصها الجرأة والشجاعة والتفتّح وأعادت للسينما حقها الطبيعي في رصد وتجسيد كل التفاصيل الحياتية، بما في ذلك اللحظات الحميمة من حياة الكائن البشري، الذي يُفترَض به أن يكون سيد مصيره على الدوام.
يمكن تبئير ثيمة "ملح البحر" وحصرها بأسرة لبنانية صغيرة تستطيع أن تكون أنموذجًا لشريحة واسعة من المجتمع اللبناني، الذي يعاني من ضيق ذات اليد حيث حيث هاجر الابن إلى كندا، وأنهت نايلة دراستها الإعدادية، وظلت حائرة بين التقديم إلى الجامعة اللبنانية أو الهجرة إلى أحد البلدان المانحة لحق اللجوء الإنساني في أقل تقدير.
لا يستطيع الأب أن يدفع تكاليف تصليح صنبور المَجلى، ونايلة تعمل في مطعم "فندق الفنار" في مدينة "صُور" المُطلة على حافة البحر، وتتعرض لمشاكسات الشباب الصريحة، سواء ارتدت الشورت القصير جدًا أو الجينز، وتلتقي بأصحابها الخُلّص من الشباب والفتيات، الذين يكبرونها قليلاً فهي تحتاج إلى ثلاثة أشهر كي تبلغ سن الثامنة عشرة. وبما أنها تأخرت عن العمل قليلاً بينما كانت تنظّف ساقيها من الشعر وجرحت باطن فخذها الأيمن، فقد تطوع شقيقها لإيصالها إلى الفندق الذي تعمل فيه حيث يتجاذبان أطراف أحاديث شتى يحفِّز بها نايلة على الهجرة إلى كندا وذلك لصعوبة العيش في لبنان، وأنها لا يمكن أن تضحّي بحياتها من أجل شاب تحبّه في مرحلة المراهقة، كما أنّ المهجر الكندي مليء بالشباب اللبنانيين الذين يودّون الاقتران ببنات جلدتهم.
يوصلها الأخ إلى "فندق الفنار" ويطلب منها أن تتصل به في نهاية عملها، لكي يقلّها إلى البيت ثانية لكن الأحداث تأخذ منحىً آخرَ لم يضعهُ في الحسبان. تدوّن نايلة، التي تبدو شاردة الذهن، طلب إحدى الزبونات لكنّ هذه الأخيرة تنبّهها إلى خيط الدم الرفيع، الذي سال من جرح فخذها الأيمن وتنصحها بأنّ مياه البحر المالحة مفيدة، وتوقف نزيف الدم في الحال.
تتوهج الثيمة الرئيسة في أكثر من موضع خاصة في لقاء الأصحاب المفضلين لديها، فبعضهم يريد أن يأخذها لإجراء مقابلة التقديم في الجامعة، وبعضهم الآخر يعترض على نزولها إلى بيروت واستكشافها لأنها لن تجد فيها سوى النفايات والفقر والانفجارات، ومن الأفضل أن تستكشف كندا أو غيرها من المنافي الغربية. تتشظى النقاشات إلى موضوعات متعددة يختلف عليها الأصحاب وحينما ينفرد بها أنطوني يسألها عن العُذر الذي اجترحته إن تأخرت هذه الليلة، فتقول بأنها أخبرتهم بوجود سهرة في المطعم وسيكون فيها البقشيش جيدًا. ثمة سؤال شديد الأهمية يطرحه أنطوني على نايلة في غرفة الشاليه مفاده:"شو تعملي لمّا أهلك ما يلاقوك بكرة الصبح؟" لا تعرف نايلة ماذا تعمل على وجه الدقة، لكنها لا تريد أن تفكر بالموضوع الآن، خاصة أنها دخلت في جو الإغراء والحاجة الجسدية والروحية إلى حد ما لإشباع رغبتها الإيروسية، التي أعلنت عنها من دون خوف أو تردد. ورغم تصريح المخرجة ليلى بسمة بأنّ هذا الفيلم مستوحى من تجربتها الشخصية، إلاّ أنّ ناتالي عيسى هي التي جسدت هذه الشخصية بشجاعة نادرة، تُغبَط عليها وتُسجّل في رصيدها الفني في خاتمة المطاف. ويجب ألاّ نغمط حق المخرجة ليلى بسمة، التي أتاحت لنا كمتلقين متفاعلين مع أحداث الفيلم أن نستكشف موضوعات الفقر، والبطالة، والتحرّش إلى جانب ثيمات المراهقة، والأنوثة، والهوية وما إلى ذلك.
تظل نهاية هذا الفيلم مفتوحة، وهي مدروسة بعناية فائقة حينما تقرر نايلة ممارسة الحب مع صديقها الذي تحبه وتتماهى في تفاصيله الصغيرة وهي مستعدة، على ما يبدو، لأن تضحي بكل شيء من أجله، فلاغرابة أن تضع اغراءات المنافي جانبًا، وتذهب إلى منفى الحب الذي اختارتهُ بنفسها، وإن كان مطوقًا بحقل الألغام الذي يمكن أن يتفجر في أية لحظة. جدير ذكره أن "ملح البحر" سيشترك في الدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي لهذا العام.