القبيلة والقبليَّة.. في التخادم البنيوي والمؤسسي

آراء 2023/10/16
...

ثامر عباس

غالبا ما تختلط في الحوارات واللقاءات التلفزيونية الشكلية، لا بل حتى في البحوث والدراسات الأكاديمية – الجامعية، معان ودلالات تعابير من مثل؛ (القبيلة) و(القبليَّة)، حيث تحيل كل منهما إلى الأخرى، دون أي اعتبار لما تشتملان عليه من اختلاف في الخصائص وتباين في الأدوار. وهو الأمر الذي كان – ولا يزال - يتسبب بالكثير من المشكلات والعديد من الإشكاليات، التي كان من الممكن تحاشي الوقوع في محاذيرها الاجتماعية، وتلافي الانزلاق نحو صراعاتها السياسية.

وكما هو معروف، فقد اعتبرت (القبيلة) من المؤسسات الاجتماعية الأولية التي كانت مسؤولة عن حياة الجماعات البدائية، لجهة تنظيم علاقاتها الاجتماعية، والذود عن حياض مجالها الجغرافي، والدفاع عن مصادر أمنها الغذائي، لا سيما في الحقب التاريخية التي لم تكن (الدولة) قد تحولت من الفكرة المجردة إلى الواقع الملموس. هذا في حين اعتبرت (القبليَّة) بمثابة نزعة تعصبية تسعى للوثوب خارج إطارها السوسيو –انثروبولوجي الضيق، والعمل من ثم على اختراق المؤسسات السيادية للمجتمع بما فيها (الدولة)، وذلك عبر تضمين مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والقيمية حقوقًا (سياسية) مفتعلة، على غرار حقوق الكيانات المدنية الأخرى مثل الأحزاب والمنظمات، التي وأن يكفل حقوقها الدستور ويصون كيانها التشريع، إلّا أنها تبقى خاضعة لإملاءات سلطة (الدولة) وتحت إشراف قوانينها المركزية. ولمن أراد التوسع والاستزادة حول هذا الموضوع، نحيله إلى دراسة المفكر السعودي (عبد الله الغذّامي) حول الفوارق بين مفهومي (القبيلة) و(القبائلية).
ولكن الإقرار بهذه الحقيقة السوسيو- سياسية والاحتجاج بمنطقها، لا يعدم حصول ظاهرة ما يسمى بـ (التخادم) البنيوي و(التناغم) المؤسسي، بين (القبيلة) كمؤسسة اجتماعية ذات خاصية أولية تسعى لحماية أعضائها، وتأمين أقواتهم ودرء المخاطر عنهم، إزاء بيئة (صحراوية) قاسية تمتاز بشح مواردها ونزق ظواهرها من جهة. وبين (القبليَّة) كنزعة عصبية بدائية تسعى لفرض إرادتها وتسييد ثقافتها وتأبيد قيمها وتعميم علاقاتها على بقية شركاء الجغرافيا والتاريخ والهوية، خصوصا بعد إلباسها لبوس (الأحقية) السياسية و(الأفضلية) الاقتصادية و(الأقدمية) الحضارية من جهة أخرى. إذ ليس من المستبعد – تحت طائلة المصالح – أن تستعين (القبيلة) كجماعة اجتماعية بنوازع (القبليَّة) كعصبية سيكولوجية، لتعزيز كيانها البنيوي وتكوينها المؤسسي لتستحيل إلى ما يسميه المفكر الكويتي (خلدون حسن النقيب) بـ (القبليَّة السياسية)، حيث (تنزع في استمرار إلى تعديل نفسها تبعا للظروف المتغيرة). مثلما بالمقابل، يستفحل شأن النزعة (القبليَّة) وتقوى شوكتها ليس فقط على صعيد شحن العلاقات الاجتماعية وتعبئة التصورات الثقافية فحسب، وإنما على مستوى تعصب الذهنيات وتطرف السيكولوجيات.
ولعل من أخطر عواقب هذه الحالة/ الإشكالية (التخادم والتناغم)، ليس فقط على سرعة حراك المجتمعات المبتلاة بها وإيقاع تحولها من الطابع التقليدي إلى الطابع الحديث فحسب، وإنما على ديمومة حرمانها من التمتع بمظاهر الاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والرقي الحضاري كذلك. حيث لا تلبث البنى المؤسسة (للقبيلة) من الانتحاء صوب نوازع (القبليَّة) والانتخاء بعصبيتها، كلما استشعرت أن حظوظها في تحقيق مصالحها وبلوغ مآربها باتت قليلة أو غير مجدية، إزاء بقية أقرانها/ خصومها من القبائل الأخرى، التي تنافسها على ذات المصالح والمآرب.
وفي المقابل لن يطول الأمر حتى تشرأب عناصر النزعة (القبليَّة) المتعصبة وتتحفز طاقاتها التخريبية والتدميرية، ليس فقط من باب الحفاظ على كيان (القبيلة) التضامني على الصعيد الداخلي وضمان وجودها الاجتماعي على الصعيد الخارجي، ضد خصومها ومنافسيها من القبائل الأخرى فحسب، وإنما لتأكيد ذاتها المخفي والمستتر، وشرعنة وجودها الممنوع والمقموع، والإفصاح عن هويتها المسكوت عنها والمطعون فيها، وذلك عبر الاستعانة بقدرات المؤسسة (القبليَّة)، التي تمتلك من التأثيرات المادية والإجرائية، ما يجعل من أمر هذا (التخادم) البنيوي و(التناغم) المؤسسي بين (القبيلة) ككيان و(القبليَّة) كنزعة، واقعة مسموحة أخلاقيًّا ومقبولة
اجتماعيا!.