سناء الوادي
لا صوت يعلو فوق صوت الحق، لا صوت يعلو فوق طوفان الأقصى، فصوت الحق هذه المرّة أسمع العالم والدم الطاهر خضب أرض المقدس، والطوفان بدأ باجتياح كبرياء الاحتلال الغاشم وتهشيم طمأنينته، ولا بد لميزان العدل يوماً من أن يرتفع على التطرف والعنجهية الصماء التي سلبت الحقوق من أصحابها.شهر تشرين تبارك للمرة الثانية بالإعلان عن عملية طوفان الأقصى التي باغتت الإسرائيليين في ساعات الصباح المبكر لتوقظهم والعالم أجمع من غفوة طال مداها فعانق صوت الفلسطينيين عنان السماء معلنين منادين نحن هنا.. فأين أنتم؟.
حقائق التاريخ لا تكذب فكلُّ فعل يقابله رد الفعل الأقوى والأشد، ومذّ فجر التاريخ تبزغ حركات المقاومة لكل محتل استعمر أرضاً وهجر أهلها وقتل منهم ما قتل ومع كثرة الأمثلة في تتابع الزمان، التي تؤكد أنه كلما تم إخماد حركات التحرر عادت من جديد بتنظيم أكبر وتقنية أحدث وهذا بالضبط ما قامت به حركة حماس المقاومة التي فاجأت العدو في مقتله وأفشلت مخططاته في المنطقة العربية، كلّ من قرأ مجريات الأمور السياسية في إسرائيل على مدى الشهور الماضية والتصعيد الشعبي الداخلي على خلفية وصول الحكومة اليمينية الأكثر تطرفاً برئاسة نتنياهو، والتي تنبئ بقرب انفجار الوضع بأية لحظة، فعندما يبلغ التطرف مبلغ المطالبة بإحراق قرى كاملة وتهجير السكان وبناء المزيد من المستوطنات، والضرب بكل توصيات القانون الدولي عرض الحائط، ناهيك عن الحصار الخانق لقطاع غزة منذ أكثر من ستة عشرة عاماً، وبين هنا وهناك تحدث عمليات الاقتحامات للبلدات واغتيال الشباب بكل دمٍ بارد.
وفي خضم كل هذا باتت إسرائيل تنحو باتجاه تنفيذ مخططها الأزلي بدفن القضية الفلسطينية إلى الأبد، فعقب الاتفاقيات الإبراهيمية التي قد وُقعت مع الدول العربية، ارتفع سقف الطموح بالحديث ملياً عن التطبيع السعودي الإسرائيلي على اعتبار السعودية مرتكز الدول العربية والإسلامية.
الفلسطينيون راقبوا عن كثب كل ذلك، وعلى الرغم من وضع الرياض شروطاً للتطبيع أولها الحل العادل للقضية الفلسطينية، بحل الدولتين واحترام حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، إلّا أن رئيس حكومة الكيان الغاصب أدلى صراحة عند الإعلان عن المشروع الجديد، الذي يربط الهند والخليج العربي بإسرائيل ومن ثمَّ أوروبا عن خفايا نواياه بالشرق الأوسط الجديد، الذي يُحضّر له والذي سيكون فيه لإسرائيل دورٌ محوريٌّ، والذي إذا ما تم فذلك يعني التقاء المصالح الاقتصاديَّة، والتي سيسعى المشاركون فيه حتماً للعمل على المحافظة على الاستقرار السياسي، ولربما النأي جانباً بكل ما يهز طمأنينة الاتفاقيات والمشروعات الاقتصاديَّة في المنطقة، لا يعني ذلك للفلسطينيين إلا تهميش قضيتهم وإغلاقها خاصة بعد فشل الوسائل السلمية والدبلوماسية ووضع أوراق القضية في دروج العرب والأمم المتحدة المهملة لتغدو من النسي المنسي.
وفي هذا السياق فقد لوحظ التجييش الإعلامي الغربي لقلب الحقائق، وبالطبع فذلك ليس بغريب عن ازدواجية المعايير الغربية والأميركية والكيل بمكاييل متعددة، وفقاً للمصالح، فما أفرزته الردود الأولية للأفعال من سرعة الاستجابة للدفاع عن إسرائيل وتوجيه حاملة الطائرات الأمريكية «جيرالد فورد» إلى سواحل غزة، وإظهار المرابطين في غزة بصورة الإرهابيين المجرمين، بينما انتهجت واشنطن نهج الأم المدافعة عن أوكرانيا في وجه العملية العسكرية الروسية، وهذا ما يعيد للأذهان مقولة اليهود الشهيرة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ما يعني عدم الاعتراف بملكية الفلسطينيين لوطنهم أساساً، فهل المحتلون هنا هم أصحاب الأرض، وللتنويه فإنّ مَن رأى مشاهد المغادرين الهاربين من إسرائيل في مطار بن غوريون وقارنها بمشاهد العزّل، الذين يرفضون الخروج من غزة ويموتون تحت القصف المروع إيماناً بحقهم وأرضهم سيدحض تلك المقولة بفطرته السليمة.
هذا وتهدد الحكومة المقيتة بالاجتياح البرّي لغزة والعمل جاهدة على إفراغ القطاع من أهله، والسعي لخنق المواطنين العزل بقطع أساسيات الحياة عنهم، ومن ثم إغلاق المعابر التي ستغيث الناس والتهديد بقصف شاحنات المساعدات، السيناريوهات المطروحة على طاولات المحليين السياسيين، تشير لاشتعال المنطقة ككل عند حدوث الاجتياح، الذي قد يسفر عن محرقة لمدنيي غزة، فها هو حزب الله يتوعد والجبهة السورية شمال فلسطين قد تبدأ بالقصف المضاد، ومن الخلف إيران قد تضرب البوارج الأمريكية في الخليج العربي، ومن ذلك فقد تتسع دائرة الصراع بدخول اطراف دولية عدّة في ظل أصوات تدعو للتهدئة وضبط النفس، فضلا عن مراقبة الصين وروسيا بعين حاذقة تطورات الأمور، فذلك يعني لروسيا الاستشراس في الجبهة الأوكرانية، بعدما توجهت كل جهود اميركا لطفلتها المدللة إسرائيل، ومن جانب آخر إبعاد اميركا عن الحلفاء العرب أكثر فأكثر، أما على الصعيد الصيني فقد تنفذ بكين ضربتها القاضية لتايوان في أي لحظة في ظل الانشغال الدولي بما يجري في غزة، ناهيك عن ضرب المشروع الأخير للربط عبر الهند والذي سيكون حجر عثرة في طريق الحرير
الصيني.
في جميع الأحوال فإن عملية طوفان الأقصى أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة مجدداً ووضعتها في بؤرة الاهتمام العربي أولاً، ومن ثمّ العالمي ولربما قد تصل لحل عادل لا يمكن تحصيله إلا بقوة السلاح.
كاتبة سورية