الأردن ومشكلات التمدد الإسرائيلي

بانوراما 2023/10/17
...

  ماثيو بيتي

  ترجمة: أنيس الصفار                                           

كثيراً ما يجادل المتشددون الإسرائيليون؛ مستندين إلى حجة أن على الفلسطينيين تقبل الأردن وطناً لهم، بدلاً من المطالبة بإقامة دولة مستقلة، فالمملكة الأردنية الهاشمية أولا واخيراً كانت هي التي تحكم الضفة الغربية، كما أن كثيرا من الأردنيين لهم أصول فلسطينية. 

النسخة الإسرائيلية الاكثر اعتدالا لهذه الخطة تملي وضع أجزاء من أراضي الضفة الغربية تحت حكم المملكة الأردنية؛ خاصة تلك الأراضي التي لا تريدها إسرائيل. أما النسخة الاكثر تطرفاً فتتحدث عن طرد الفلسطينيين بالكامل وازاحتهم فعلياً إلى الأردن.

الأردن وطن للفلسطينيين بثمن

على الرغم من عدم وجود موافقة؛ سواء من الجانب الأردني أو الجانب الفلسطيني، تبقى فكرة جعل الضفة الشرقية لنهر الأردن وطناً للفلسطينيين تحوم في الأوساط القومية الإسرائيلية، وهي تكتسب ثقلاً في زوايا غير متوقعة من واشنطن أيضاً. ففي الشهر الماضي نشرت مجلة “جاست سيكيورتي – الأمن العادل” ذات التوجه الليبرالي مقترحاً مبتكراً وفق هذه الخطوط بقلم “جوناثان بانيكوف” مدير مبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط ضمن مؤسسة المجلس الأطلسي.

كتب بانيكوف قائلاً: “سوف تحتفظ إسرائيل حتماً ببعض مستوطناتها في الضفة الغربية والأراضي  التي أقيمت عليها مع اي اتفاقية يتم التوصل اليها، وعدد المستوطنات الذي ستصر إسرائيل على التمسك به سوف يمضي بالتزايد عاماً بعد عام.” 

من دون هذه الأراضي  لن تستطيع فلسطين أن تصبح دولة مستقلة لها مقومات الاستمرار والدوام، والحل الذي يطرحه بانيكوف لهذه المشكلة هو تعويض دولة فلسطين عن الأراضي  التي ستفقدها لصالح المستوطنات بأراضٍ أردنية بديلة. وفي مقابل ذلك سوف يحصل الأردن على بعض الأراضي  السعودية بالإضافة إلى امتيازات اقتصادية. ولأجل إتمام هذه الصفقة سيطلب من العائلة الملكية الأردنية الهاشمية أن توافق على مشاركة العائلة الملكية السعودية في أثمن وأعز إرث لديها؛ وهو الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس (أورشليم).

هذا الاقتراح هو أسوأ من مطالبة الأردن ببيع حقه المكتسب بالميلاد بأبخس ثمن.. أن يبيع التِبْرَ بالتراب، لأنه يطلب من الأردنيين المجازفة بتعريض بلادهم لانهيار عنيف. كانت آخر محاولة لبناء دولة فلسطينية داخل الأردن، وهي التي عرفت باسم “أيلول الأسود” في العام 1970، قد انتهت بحرب أهلية طاحنة (وكانت قصيرة الأجل برحمة إلهية). ثم إن الأرض التي يعنيها بانيكوف، وهي وادي نهر الأردن، تعتبر سلة غذاء البلاد. ويُعَدّ الأردن الآن بلدا فقيرا بالمياه، ومن دون “نهر الأردن” والأراضي  الخصبة التي من حوله ستواجه البلاد كارثة بيئية جارفة. فعلى بعد أميال قليلة إلى جهة الشرق من النهر يتحول المشهد في الأراضي  الأردنية إلى صحراء سوداء لا تصلح لعيش أعداد كبيرة من البشر فيها.


المصالح الإسرائيلية مقابل العربيَّة

اقتراح بانيكوف ليس سوى واحد من أعراض قصر النظر لدى واشنطن فيما يخص الشرق الأوسط. فصناع السياسة الأميركيون غالباً ما ينظرون إلى المصالح الإسرائيلية على إنها قضايا مصير ووجود ينبغي التعامل معها بأقصى درجات العناية. أما الدول العربية، حتى الصديقة منها للولايات المتحدة، فهي نادراً ما ينظر إليها تحت الضوء نفسه، ومصالحها الحيوية تعامل في أغلب الاحيان وكأنها مجرد مقتنيات؛ بالوسع مقايضتها حتى لو كانت غالية الثمن. 

لن يطرأ على بال أي مؤسسة فكرية أن تطالب إسرائيل بالتخلي عن تل أبيب مثلاً من أجل الأردن، في حين يستطيع بانيكوف بكل عفوية أن يقترح تفكيك أرض الأردن من أجل إسرائيل.

لقد اعتادت واشنطن أن ترغم بقية دول الشرق الأوسط على الاستجابة للمصالح الإسرائيلية والتعايش معها. يعتقد السياسيون الأميركيون، لأسباب أيديولوجية، أن عليهم مسؤولية حماية إسرائيل التي يرونها دولة صغيرة هشّة محاطة بأعداء من العرب الاقوياء. لكن هذه الصورة عفا عليها الزمن منذ عقود، لأن العديد من دول المنطقة ومواطنيها اليوم أكثر هشاشة وضعفاً أمام هجمات إسرائيل من العكس.

فالزعماء الإسرائيليون مثلاً كثيراً ما يرددون انهم يحتاجون إلى المستوطنات للحفاظ على حدود يمكن الدفاع عنها وإلا اصبحت المدن الإسرائيلية، مثل تل أبيب، مهددة في كل لحظة بخطر معلّق فوقها؛ مصدره المناطق العربية التي لا تبعد أكثر من 30 كيلومتراً. في حين أن الأردن معرض للخطر بالدرجة نفسها نظراً لتمركز الجيش الإسرائيلي على مسافة لا تتعدى 30 كيلومتراً عن العاصمة الأردنية عمان، وعن إربد أيضاً التي تعد ثاني أكبر مدن الأردن. كذلك يقع العقبة، وهو الميناء الأردني الوحيد، على شريط من الساحل يبلغ طوله نحو 16 كيلومتراً وهو واقع بين الحدود الإسرائيلية والسعودية.

لذلك، حين يروج الساسة الإسرائيليون لإمكانية طرد الفلسطينيين في هجرة جماعية باتجاه الأراضي  الأردنية، او حين يقفون أمام خارطة تظهر الأردن كجزء مما يسمى “إسرائيل الكبرى”، يكون لدى الأردنيين من الاسباب ما يكفي لتفسير ذلك على إنه تهديد لهم ينطوي على عواقب الموت والحياة. فالضفة الغربية كانت في الأصل جزءاً من سيادة المملكة الأردنية حين وقع الغزو واحتلتها القوات الإسرائيلية في العام 1967، ولكن لم يبرز لنا من يقترح تقطيع أوصال الأراضي  الإسرائيلية لإشعار الأردنيين بأنهم اكثر اماناً.


ضمان هيمنة إسرائيل

الأردن ليس جار إسرائيل الوحيد الذي يعيش في ظل هذا النوع من التهديد، فمصر وسوريا ولبنان جميعاً لهم أراضٍ احتلتها القوات الإسرائيلية. في الماضي، كانت الولايات المتحدة تبذل المحاولات لكبح الجانبين العربي والإسرائيلي معاً، ولكن السياسة الأميركية اليوم تركز بالكامل على ضمان هيمنة إسرائيل على الدول العربية. وبينما يهدد المسؤولون الإسرائيليون بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، وإذ تخرق الطائرات الحربية الإسرائيلية المجال الجوي اللبناني بدويها نجد أن واشنطن منشغلة بمناقشة كيفية تجريد حزب الله اللبناني من وسائل القوة ورعاية جيش لبناني لا يقوى على تهديد إسرائيل.

تحظى مصر والأردن بمنزلة فريدة بين الدول لأن الولايات المتحدة تعتبرهما حليفين رئيسين لها من خارج حلف الناتو. وقد انهالت حكومة الولايات المتحدة على الأردن بثناء خاص لالتزامه بالاهداف الستراتيجية المشتركة، على حد وصفها، وهي تعتبر استقرار الأردن مصلحة أميركية من الناحية النظرية. بهذا الصدد بذلت المملكة الأردنية الكثير سعياً منها لتحقيق السلام مع إسرائيل وفق شروط تحبذها واشنطن. وفي العام 1994 وقعت الحكومة الأردنية معاهدة سلام مع إسرائيل تخلت بموجبها عن المطالبة بالضفة الغربية كما استوعبت اللاجئين الفلسطينيين في المجتمع الأردني، ولكن بعد ثلاثين عاماً من ذلك يبدو أن هذا هو جزاء المملكة على تجاوبها مع القوميين الإسرائيليين وداعميهم من الأميركيين.

المفارقة هنا هي أن الأردن لم يقبل بمعاهدة 1994 إلا لكي يتجنب تبعات وتكاليف القضية الفلسطينية. فكما أوضح مروان المعشر، وزير الخارجية الأردني السابق، خلال مقابلة أجريت معه مؤخراً أن المملكة تخلت عن المطالبة بالضفة الغربية من أجل إقامة حدود دائمة ووضع نهاية لمفهوم أن الأردن يمكن أن يصبح وطناً بديلاً للفلسطينيين. بخروج عمان من الصورة كان المفروض ان يعكف الإسرائيلون والفلسطينيون معاً على حل مشكلاتهم ضمن الحدود التي تكتنف إسرائيل وفلسطين.


التلاعب باستقرار الأردن

يحذر بانيكوف من احتمال أن يؤدي استمرار حكم إسرائيل للضفة الغربية إلى القضاء على هوية إسرائيل كدولة ذات أغلبية يهودية، غير إن المستوطنات الإسرائيلية ليست أشياء ثابتة لا يمكن نقلها، مثلما يصورها بانيكوف. لا شك إن ترك آلاف المواطنين الإسرائيليين تحت حكم الفلسطينيين – أو اخلائهم قبل تسليم تلك الأراضي – سيكون مؤلماً سياسياً لإسرائيل، لكن هذه مشكلة إسرائيل وليس الأردن.

إذا كانت إسرائيل راغبة حقاً في حل ارتباطها بالضفة الغربية وتجنب مشاركة الفلسطينيين في دولة واحدة فسوف تجد طريقة تحقق بها ذلك، إذ ليس هناك من مبرر اخلاقي أو عملي لجعل المملكة الأردنية تتحمل تكاليف هذا الحل. إن اقتراح بانيكوف أيديولوجي في واقعه، وهو قائم على أساس الاعتقاد الأميركي بأن ضيق الإسرائيليين أولى بالاهتمام من معاناة العرب.

فعلى الأقل إن تهديد السوريين واللبنانيين، وهم أعداء لإسرائيل، يمثل نهجاً ستراتيجياً إلى حد ما لأنهم أعداء للولايات المتحدة أيضاً، لكن التلاعب باستقرار الأردن، وهو الدولة الصديقة لواشنطن، أمر لا يمكن فهمه على الاطلاق، والاصرار على فعل ذلك من أجل مصلحة المستوطنات الإسرائيلية ليس سوى تعصب أعمى.


عن مجلة {رسبونسبل ستيتكرافت}