المكان والجسد في تخطيطات علي رضا سعيد

ثقافة 2023/10/17
...

 وارد بدر السالم


أصف المكان بأنّه حاضنة. يشبه الرحم الدافئ الى حدِّ كبير. صلةُ وصلٍ بين الذاكرة وخيالها. ولا يمكن أن يكون هذا تعريفاً، إلا لأنَّ المكان له حضور في التشكّل الذهني والروحي في الإنسان، مهما أحاطته من ظروفِ ابتعاد وتمويه وغربة. لذلك ونحن بصدد قراءة تخطيطاته الحبريَّة والمائيَّة، نضع تجربة الفنان علي رضا سعيد في هذا الحيّز الجوهري من تجربته، ونضيف اليه فكرة "الجسد" التي لا تنفصل عن المكان، باعتباره حاملاً من حوامل المكان سيكولوجياً، في تقاليده وثقافته وموروثاته متعددة المنافذ.

بين الغياب القسري والحضور الرمزي، وانتقال المكان الى المكان البديل، ثمة شعور ينتاب الفنان بأنّه (فقد) شيئاً من ذاته ومحيطه وبيئته. حتى بدا وكأنَّ اللون الغائب في مجمل أعماله الفنيَّة لا سيما في تخطيطاته القلميَّة والمائيَّة، كأنَّه بقيَ في مكان أول غادره الفنان، فالانتقال الى مكان بديل يتطلب عمقاً آخر من الرؤيا، بينما يبقى المكان الأول هو الحافز والمحفز والملهِم الدائم، أما العمق الآخر في التعايش فهو البديل الرمزي الذي جعل من الفنان أن يرى محيطه الأول وبيئته الأولى، بعين أكثر وضوحاً في مراقبة تحولات البيئة والمحيط الذي كان فيه. ونحسب أنَّ المكان البديل هو لا مكان. بل روح مسايرة للمكان الأول، تحاول أن تغذّيه وتستثير ذاكرته الفنيَّة، ليكون الحاضنة المؤقتة في إلهام الفنان. وهو يعني أيضاً تهيئة المكان لسيرة ذاتية فنيَّة.

نعني من ذلك أنَّ الفنان علي رضا سعيد الذي غادر العراق منذ أكثر من عشرين سنة، وأقام في تونس، بقيَ يستلهم من الماضي المحلي الكثير مما يحفزه أن يقدم أفكاراً قلميّة وتخطيطيّة تجمل الغياب القسري له، على أشكال متنافذة من الهياكل التخطيطيَّة التي ميّزته عن غيره من مجايليه الفنانين، بما يشي اتصاله في المعنى الإنساني، موجِزاً التحولات الكبيرة التي حدثت في غيابه التونسي. بخطاب تقني قائم على أسلوبيَّة فنيَّة بَصَريَّة لرسم مشهديَّة إيقاع المكان وقوته المؤثرة في ذاكرته. فقد تكون هذه الذاكرة الفنيَّة هي استعادة مشهديَّة لسيرة ذاتية، أوصلها الفنان بطريقته وبما تحمله من رؤى وقناعات. وحتى مثل هذه السيرة هي ليست ذاتية محضة، بقدر ما هي بعضٌ من سيرة بلاد التهمتها الحروب والصراعات السياسيَّة والتحولات الدراماتيكيَّة.

ما يلفت الانتباه في رسومات الفنان هو تلك الكتل الضبابيَّة والغيوم والأمطار وتراكم طبقات الأسود بتدرّجاته اللونيَّة في التقارب الجسدي بين الشخصيات، بما يشير الى الاحتماء الجسدي تحت ظروف متراكبة غير واضحة المعالم. كأنّما تربطها استشعارات سريَّة، يمكن مراقبتها وملاحظتها بصورة دقيقة عبر التكرار الشكلي في رسومات لا تبدو متشابهة في التكوينات، لكنَّها تتشابه في الفكرة العامة، وكأنّما هي قصائد قصيرة مبعثرة، تحتاج الى نظمها في قافية موحدة. ولا شكَّ أنَّ قافية التشكيلات الذهنيَّة لدى الفنان، تصف هذا التراكم الطبيعي وحصره في موجّهات فنيَّة وتقنيَّة في بعثرة الخطوط ومن ثمَّ نظمها في لون أسود قد يكون غامقاً أو رمادياً، وهو ما يشي بالحالة النفسيَّة للفنان، وانتقال المكان عنده الذي جعله أكثر تبصّراً للغاية الفنيَّة والذهنيَّة والفكريَّة. فالمكان وليد نسيج من التعايش والانتماء الى حاضنته بشكل مباشر أو غير مباشر.

للجسد البشري في رسومات الفنان علي رضا سعيد حضور بارز، فارتباطه في الذاكرة، أعطاه بُعداً رمزياً في كثافته وتقنياته التخطيطيَّة في الصياغات الفنيَّة. والجسد الواقع بين حرب وحرب، هو تجسيدٌ لمعاناة إنسانيَّة مأهولة بالمأساة في الأنساق التي يحاول الفنان أن تكون أكثر تواصلاً وتعبيريَّة في الطرح الفني. ليكون الجسد في لوحاته واستشرافاته التشكيليَّة أكثر تميّزاً، بالرغم من إكساء لوحاته بالمطر والغيوم ، وهي رموز جماليَّة في الأحوال كلها، غير أنّها أيضاً تشير الى الحنين الى المكان الغائب بطريقةٍ أو أخرى، وكأنَّ لوحات الفنان وتخطيطاته الحبريَّة على مواد مختلفة، هي انتقالات موضعيَّة من (هناك) الى (هنا) غير أن مثل هذه الانتقالات محكومة الى ظروف كثيرة، سياسيَّة وانسانيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة، في مجمل مساحة العالم العربي، ولا شك أن مكانين استلهم منهما الفنان أفكاراً كثيرة، هما العراق بكامل تجلياته المعروفة، والمكان التونسي المحفّز لانطلاق تجربته، والمساعد على تمثّل تجربته الفنيَّة التي تؤشر الى بينات تصاعديَّة في مسيرة الفنان المجتهد علي رضا سعيد.

والفنان علي رضا سعيد حاصل على دبلوم فني رسم - من معهد الفنون الجميلة بغداد عام 1977، وبكالوريوس رسم - من كلية الفنون الجميلة بغداد عام 1984 وماجستير فنون تشكيلية - المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس 2004، ودكتوراه علوم وتقنيات الفنون المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس 2013. وقد أقام أربعة عشر معرضا شخصيا منذ عام 1988 الى 2022 في العراق - الأردن- ليبيا - تونس - الامارات العربية - السويد. مالمو.