بانتظار عفوٍ عام

ثقافة 2023/10/17
...

  حاتم حسين


ما زال البحثُ والتّقصي قائماً على قدمٍ وسَاقْ. تُريد القبض عليَّ وإيِداعي السجن. في تقديم إِشعار لكلّ السّلُطات المُخوّلة، إينما تمكّنوا منّي؛ المفاوضات قائمةٌ بين أن أستمرّ بِحُبِّها. أو أن أتوقفَ عن مُشاركة ساحات التظاهُرات. خياِرٌ معروض أمامي، وأنا مُقدِم على دخُول حياة اِجتماعية جديدة. يفُترض أن أعيشَ بأمانٍ واستقرارٍ، وهدوء. وبِالمِقابل هناك (قضاءٌ وقرارٌ محسوم) لا بدَّ مِن تصفيته؟ أعلمُ بأنّي مجهولُ المصيرِ. أو مقتولٌ لا محالةَ بمجرد ظهوري العلني. لا أعرف لِمَ كلّ هذا الترقّبِ لظهوري. مع أنّي مُصابٌ، ولم أنهض من جروحي القاتلة، وأنا أعمل. وأتحرّك وأشعل الحرائق في النفوس على هذا الوطن الذي استبيحت كرامته، ومستقبله في الساحات، والتجمعات. صراع ومطالبات لإسقاط الأقنعة المزيفة، والوعود نفس الوعود التي قطعتها لحبيبتي التي أخبرتها دوما على أنّها آخر شيء يمكن التنازل عنه. فأوراقي محالة إلى (مفتي الجمهورية) كما يقال في الأفلام المصريَّة. وحفظتها كما في الأحكام القضائيَّة.

لا أدري يا ربِّ أيّ الوعودِ أقطعها أمام قطع رقبتي؟!، أمام مقصلةِ الحكومةِ وأمام وعدٍ لحبيبتي التي ما زالت تنتظر الوضوح والحسم، وأنا أهرب من كلّ العراقيل التي تقف في طريقي. أهرب كي لا أكون فريسةً سهلة ولقمة سائغة، كان حلمي البسيط. وأملي أن أرى أبناء بلدي من (النازحين) يحققون حُلم العودةِ إلى ديارهم ومدنهم. وأن نحمي قُرانا المنفية، وبيوتنا الموجودة على خارطة هذا البلد الذي أحببناه، وأسقطناه من حساباتنا؟!.

أحلم بصدور (عفو عام) كي أتلمس طريقي، وبناء مستقبلي، وأعيش مع حبيبتي التي أرهقتها الوعود، والانتظار. مازلت أحلم  بالمتناوبين على هذه السلطة، وبوصفي هدفاً مطلوباً ومتحركاً، ينام على خوفه وقلقه. ولكن يصعب الإمساك به. في كلّ يوم أجول في إحدى المحافظات. واعتاش، وأبيع على ظهري (قناني الماء) بقعة متحركة لا تعرف الهدوء والاستقرار والطمأنينة. إيواء وعيش في كلّ الأماكن التي يصعب عليك تخيّلُها. لكنّي أعيشها وأتآلف معها. حتّى أن الظروف سمحت لي أن أعبر الحدود. وأصل إلى (بحر مرمرة والشواطئ اليونانيّة) وكلّما توغلت في العمق! التفتُّ إلى الوراء بشكل غريزي ممتلئاً بالحنين. رافضاً أن أتقدّم أكثر، ينتابني إصرار عجيب في النكوص والعودة إلى بلدي رغم قلقي على مستقبلي المجهول!، أحمِلُ همَّ حبيبتي وهمّ أهلي، وأبناء مدينتي التي أحلمُ بعودتهم إلى الديار ومدنهم المدمرة، كلّ شيء كان متاحاً لي على أن لا أعود، وأعيش في أمان، وعلى أقل تقدير على (المعونات الإنسانيَّة) التي افتقدتها في بلدي. لكنّ نفسي أبت أن أعيش على مثل هذه المساعدات التي تُذكّرُني بأيّامي السوداء. حين كنت أشاهد عن كثب. كيف كنّا نحن النازحين!!، نركض وراء سيارات المساعدات التي توزّع سلال الأغذية والمعونات. صور قاتمة في قلبي وذاكرتي. أحاول أن أسرد قصتي الطويلة أمام عينيك يا حبيبتي التي تشاركني سفري وتجوالي على أننا يوماً ما لا بدَّ أن نجتمع مثلَ بقيّةِ البشر. كان لازما عليَّ أن أشرحَ لك، ولا أُخبّئ عنك. لا لتبرير حُبّي لك. أو التلكؤ في البقاء على اختيارك حبيبة أبديّة. بل لقسوة الظروف، وتعثري أمام إنسانةٍ كان يجب عليَّ إخبارها بقصّتي. وأن أُسقط أمامها ستاري وقِناعي الذي أختفي وراءه. ربّما لم أجد فرصة ثانية أن أُكلّمك بهذا الوضوح أنا مثلك يا حبيبتي أكره (اللون الرمادي) وأكره أن أدير ظهري وخصوصا لك. أو أقدّم لك تبريرات سخيفة لا تنمّ عن قيم الرجولة والتحدي. تذكّري إِحساسي المتصل بك الذي لا ينقطع. وأنت تقفين كلَّ صباح أمام المرآة. وتتهيئين اللحظة للخروج إلى العمل. صدقيني أنا معك حين تركبين (الكية) أو تمشين مع صديقاتك. أو حين تعودين للبيت. وحين تفكرين وتتمدّدين على سريرك، تذكّري أني معك. أريد أن أُبدّد كلّ ما في صَفْحتي وأجعلها شاشة بيضاء خالية من الملاحقات. فكُلّما دقَّ بابنا طارقٌ. أو سكيرٌ هلعت. وفِزعت. أو كلّما جاء شُرطيٌّ للتبليغ توثّبت للشروع والهزيمة. أحيانا أختلق الرعب لنفسي. أنا (المحكوم غيابيّاً) ولكن مطلق السراح أريد عفواً شاملاً لأرتع في بيتي، وبين جنبات وصدر حبيبتي. أتخيّل أني أشاركها حبّها وشهوتها. فاغمض عيني على سماع صوتِ أول وليِدٍ.. لي. اِبني البكر الذي سأفيق على صراخه، وهو يدعوني لاستغاثته. فأمتلئ بالشّجن وأميل برأسي إليه، وأقبّلهُ. وأرفعه إلى أحضاني لتمتدَّ معرفته بي. ويتمسّك بي. علاقة مُدهِشة تجعلني قابضاً على حريتي التّي ترفض الاستسلام التي أنتزعها كلَّ يومٍ بأعجوبة. أسير لا تخيّل وسط الليل الهادئ. أترصد وجوه المارة. خوفا أن تتلقفني عيونٌ تعرفني؟!، العيون التي  كانت تحمل الهراوات والأسلحة. فأحث الخُطى لأنسى صوت الرصاص، وصوت القناص. وصوت القنابل الدخانيّة. وأنا أصم أذانيّ لأتخلص من تقلصات الألم الذي ينتابني ويكابدني. أتذكّر صديقي الذي استقرّت رصاصة طائشة في صدره واستشهد في الساحة. أحلم أن أتلقّى رعاية أشعر من خلالها بالانتماء إلى وطني وأهلي. أبحث عن حقوقي المفقودة بين دساتير القوانين لأستعيد سعادتي المفقودة. وها أنذا بالانتظار

 يا حبيبتي.