الرقص اختبار الجسد

ثقافة 2023/10/17
...

  ناجح المعموري

الطقوس بحاجة إلى الجماعات من أجل أن تتخذ طابعها التشاركي، لأنها من دون المشاركة تكون معطلة، وكلما اتسعت المشاركة تمركزت الطقوس وكانت قادرة على استيلاد ممارسات أخرى مجاورة لها. الجماعة ضرورية في أداء الطقس، ولها أهمية حتى من خلال سلوكهم، لأنها تجعل من الطقس نظاماً حاكماً وتقربه من مزاولات دينيّة أخرى، كالعيد أكثر قرباً من الرقص بوظيفته الاحتفاليّة والجمعيّة. قلنا ان الرقص نظام ديني في الأساس، يتكرّس باستمرار ويتمركز من خلال الممارسة، حتى يصير بناء ثقافياً مؤثراً ويجري استحضاره في طقوس وشعائر أخرى.

وكان  انفلات عذراوات أرتميس هو محاولة للزوغان عن فضاء الخواء، وسعي منهن لإنقاذ أجسادهن من الجمود. لأنّ الجسد يحتل مكاناً قيمياً في الرقص، وهو الذي يضفي على الممارسة صفتها المقدّسة. وتتسع دلالتها بالمزاولة المستمرة، ومشاركة الكثرة التي لا بدَّ وأن يحوزها الطقس، بعدها ابتداءً ذاتياً، بمعنى أنتجها الإنسان/ أو الإلهة أرتميس التي وجدته قبلاً، لأن الرقص فعالية الإنسان منذ لحظة البدء والتكوين، لكنه حاز لاحقاً على توصيفاته.

وتظل الصفة الطقسيَّة للرقص على الرغم من تحوله إلى ممارسة مشتركة بين النساء والرجال في الشعائر الدينيّة أو الحياتيّة. ومشاركة الرجال مسموح آسيوي، كرّسته الديانة الهنديّة، حيث كان شيفا الإله الراقص هو الذي منح الرقص طاقته اللذّيّة، وانفتاحه على التنوع الديني والحياتي وتجديد الكون والعالم وإفراغ الجسد من تراكماته المعطلة له، الرقص تحفيز للجسد وتثوير له كي يزاول كل طاقته. مثالي ما كان الرقص تفريغاً لشحنات الطاقة الجسديّة كما قال روجيه كايوا.

الرقص فرصة أرتميس وعذاراواتها لاختبار أجسادهن ونشر الابتهاج الكاشف عن صفاء الروح، إنّه اختبار الحياة ضد موتها وإعلان الطقس تجديد لها وإزالة للاندثارات في الأجساد وإيقاظ للسحر فيها. ولا بدَّ للرقص من أن يتخذ طقسيته، وتشارك الجماعة فيه (إنَّ الإفراط لا يرافق العيد بشكل مستمر وحسب، ولا هو مجرد ظاهرة عارضة لما يثيره)، بل إنّه ضروري لنجاح الاحتفالات القائمة، كونه يشارك في طابعها المقدس ويسهم مثلها في تحديد الطبيعة أو المجتمع. إن هدف الأعياد هو هذا، في الواقع، لأنَّ الزمن يستنزف القوى ويوهن الإنسان.  إنّه عامل الشيخوخة الذي يقتادنا إلى الموت حتماً. في كل عام يتجدد النبت، وعلى غرار الطبيعة تفتتح الحياة الاجتماعية دورة زمنية جديدة لا مندوحة، إذا، لكل ما هو قائم من التجدد. لا بدَّ من إعادة خلق العالم. هذا الأخير يسلك مسلكاً كونياً خضع لنظام شامل، ويتبع في سيره إيقاعاً منتظماً، يضبطه القانون والقياس. إنَّ سنته تقضي ببقاء كل شيء مكانه وحدوث كل أمر في أوانه. ذلك ما يفسّر كون ظاهرات المقدس في جلها محظورات وتصرفات وقائية ضد كل ما من شأنه أن يهدد النظام الكوني، أو كفارات وتعويضات عن كل ما أمكن تكفيره وإصابته بالخلل. 

في طقس أرتميس وعذراواتها تجديد للجسد من خلال طرد التآلف المتراكم فيه، ولم يكن لديهن غير الرقص وفعاليات أشرنا لها لتحرير الجسد الإلهي من تراكماته وذبولاته بسبب تعطله المؤقت عن إبداع ممارسات تنشيط الجسد. وفي اللحظة التي يحوز فيها الجسد حريته يتمكّن من نزع قشرة الموات والاندثار عن العالم والكون من خلال هذا الطقس وهذا ما ألمح روجيه كايوا في حديثه عن العيد/ الطقس الخاص ضد التلف والبلى. وكلنا نتذكر طقوس أعياد الاكيتو في سومر وأكد، وكيف كانت تنقذ الإله من موته الدوري وتمنحه ألواح الحياة للسنة الجديدة وتعيد ترتيب وإعادة بناء الحياة والمملكة من جديد (إن الزمن الأسطوري هذا أصل الزمن الآخر)، في الواقع، ومنه يطلع بشكل متواصل متسبباً بكل ما يظهر فيه من تشوش وغموض. إن الفائق للطبيعة يكمن دائماً وراء المحسوس، ويميل إلى الظهور من خلاله، باستمرار. لقد جرى تصوير هذا العهد الأولاني، بإجماع منقطع النظير من قبل أكثر البلدان تنوعاً واختلافاً، بأنّه المكان المثالي للغرائب والتحولات. لم يكن بعد قد ترسّخ شيء، ولا كان هناك أي قاعدة مرسومة أو شكل ثابت، بل إن كل ما بات، منذ ذلك الحين، مستحيلاً كان  آنذاك ممكناً. 

الرقص إذن طقس تصويري للزمن الأول وباعتباره أسطورة خلق وتكوين جديد، ولأهمية هذا الطقس لا بدَّ من استعادته دورياً وإخضاعه لإيقاع معين، تحدد جماعة من الجماعات، أو شعب من الشعوب، بمعنى يتكرّس الرقص كطقس ديني بوصفه نظاماً ثقافياً مكوناً من رمزيات عديدة.

إذا حاولنا تجزيء جسد الأنثى، فإننا سنجده شبكة رمزيات وكل جزء له معنى ودلالة، ليس هذا وحده، بل إن مجاورة جزء مع آخر، سينتج تصوراً جديداً ومغايراً، ولا وجود لجزء من جسد الأنثى متمايزاً عن غيره، فعل ما فيها يفضي إلى تفاصيل دلاليّة، لكن لا بدَّ من الإشارة إلى طغيان التفاصيل الجنسانيّة والرغبويّة. ويقودنا هذا الرأي إلى التقسيم الثلاثي الذي اقترحه لاكان عن الخيالي/ الرمزي/ الواقعي، هذه هي سلطات الأب لديه، متعاونا مع ليفي شتراوس الذي اعتبر الرمزي هو العتبة الاولى في الحياة وان المجتمع ابتدأ بأصل رمزي. لذا يمكن التعامل مع الرقص بصفته الدينيّة/ الطقسيّة، الاحتفائيّة والمشترطة لحضور من نوع ما، لأنَّ التشارك يجسّد رمزيّة الطقس والانغمار بها كنوع ثقافي له أصول حياتيّة ومجتمعيّة.

والأجزاء الجسديّة الأنثويّة الرامزة نستطيع الاقتراب منها أكثر لو استطعنا قراءة الأعمال التحتية ورسوم بيكاسو عن مسخ الكائنات لاتضح لنا أن التفاصيل الرمزية حاضرة بقوة ومساعدة على تقديم كشوف عن العناصر الجنسية للإلهة أرتميس وعذراويتها. حتى حركاتها الراقصة ليست تجريديّة، بل مشفرة، تفضي إلى رسائل قصديّة، شفاهية، لأن الرقص اقرب للشفاهيات من الفنون الأخرى.

المعاني لا يمكن تخزينها إلا في الرموز. صليب، هلال، ثعبان مجنح. إنّ هذه الرموز الدينيّة، كما نجدها ممسوحة في الطقوس أو مروية في الخرافات تختصر، بالنسبة إلى الذين يؤمنون بها، كل ما هو معروف عن العالم، وعن الحياة العاطفيّة، وعن الطريقة التي ينبغي للمرء أن يتصرّف وفقها بينما هو يعيش في هذا العالم. وهكذا فإن الرموز المقدّسة توصل ما بين علم طبائع الموجودات والنظرة إلى الكون والذائقة الجماليّة والأخلاق. 

في رأي العالم الأنثربولوجي اختصار واضح لمعنى الرمز وعلاقته بين العالم والفرد/ الكائن، لأنّ الرمز قائم منذ البدء في تفاصيل الدين وخصائص الكائن البشري؛ لذا كان وظل الرمز هو خزانة الدلالات الثقافيّة. وعلى الرغم من أن غيركز حدد نوعاً ايقونياً من الرموز، إلا  أن الجسد الإنساني مكون من شبكات رمزيّة، تتسع كلما طرأت تحولات في الحياة الإنسانيّة وتغيرت علاقة الجسد بالمحيط. من هنا أؤكد على  أن طقس الرقص، ديني بوضوح تام والطقوس حاضنة للرموز، وتظل فيها حتى الأبد. ربما يصيبها نوع من السكون أو خفوت الصوت، إلا  أنها تعاود ثانية مغادرتها اللاوعي الجمعي وتدخل ثانية في فضاء التداول، والرموز التي تتعطل تتحول إلى رموز منسية كما قال اريك فردم ولن تبقى هكذا لفترة طويلة.

وبناءً على النظرية الرمزية فإن «الصورة الألانية، صور كل من الحساسيّة ومقولات الفهم الخالص، تقوم بفرض الوحدة والنظام والاتساق والمعقوليّة على مدركاتنا الحسيّة المشتتة والمتفرّدة. وترتب على ذلك أنه لم تعد التجربة عند كانط مجرد واقعة بسيطة، بل أصبحت مكونة من عاملين متضادين أحدهما مادي والآخر صوري، وأصبح الجانب الصوري هو وحده مصدر الكلية والضرورة ومن ثم

الموضوعيّة. 

إنّ رموز الجسد الغفيرة والتي تحول بعضها إلى ايقونات صوريّة منذ لحظة سومر وحتى هذه اللحظة، وانفتحت امامها الديانات الشرقية الاخرى، هذه الرموز تستيقظ لحظة ابتداء طقس الرقص. وتكون مستيقظة مختلفة عن التي تبدأ دورتها بعد الابتداء ومغايرة عن التي تكون عند الاحماء والدوران، كذلك التي يصعب متابعتها وملاحقتها، لأنَّ الرموز تدخل وسط لحظة الدنو من الاكتمال الدلالي ويكون فيها الجسد مشحوناً ومتوتراً وهو يدنو تدريجياً من بؤرة التكون والحياة الجديدة بعد مغادرته مكان السكون والصمت والعدم. بمعنى أن الجسد شبكة رمزية، يستنطقها الرقص ويفضي بها نحو منطقة الكلام، ومثالى ما قال كليفورد غيركز: إن مجموعات الرموز المقدسة، المتكتلة والمحبوكة في كلية منظمة هي التي تصنع النظام الديني ويبدو أن مثل هذا النظام الديني، بالنسبة إلى أولئك المؤمنين به، يقدم المعرفة الحق، معرفة الشروط الاساسية التي يجب بالضرورة أن تعيش الحياة بحسبها وعلى وجه الخصوص، حيث تكون هذه الرموز فوق النقد تاريخياً وفلسفياً، كما هي في معظم ثقافات العالم.