نعي الذات وازدواجيَّة الحياةِ في «سفر بقطار عاطل»

ثقافة 2023/10/17
...

  د. سعيد جيهانبولاد

 ترجمة : أصغر علي كرمي

حديثاً تمَّ ابتكار مصطلح  Autothanatography في النصوص الأدبيّة والفلسفيّة الإنجليزية. والذي يعني « نعي الذات» أو «كتابة موت الذات». لأنهم جاؤوا بهذا المصطلح من المعنى العكسي لمصطلح السيرة الذاتية. إنه شكل من أشكال الإدلاء بالشهادة من خلال التجارب الشخصية في مواجهة الموت الذي يحدث أو الموت في المستقبل لشخص أو مجموعة أشخاص.
وبما أنّ السيرة الذاتية تسجل الحياة الشخصية أو حياة الأشخاص الماضية والحاضرة، فإنّ لها علاقةً بالموت الذي يحدثُ أو سيحدث في المستقبل، وبما أنها تدور حول الموت العرضي في الحاضر والمستقبل، فالعلاقة بتجارب الشخص أو الأشخاص وشهادتهم يمكن أن تكشف أسرارَ الموت والموت ذاته، وكذلك ثنائية موت/ حياة الأشخاص في الفترة التاريخيّة أو في الزمن الحالي داخل النصوص. 

ويمكن ذكر أعمال مهمة كُتبتْ بهذه الطريقة عن نعي الذات لدى الكاتب: جاك جان روسو، وموريس بلانشو وجاك دريدا، وسارة كوفمان، وكذلك شعراء مشهورون مثل بودلير وبول سيلان وسيلفيا بلاث وغيرهم.

أرسل لي صديقي العزيز والمترجم أصغر علي كرمي مجموعة الشاعر حسين هليل "سفر بقطار عاطل" قبل طباعتها باللغة الفارسية ونشرها.

أن الموضوع الاول الذي جعلني أفكر في القصائد کان أسلوب حسين هليل وكتابته وفقاً لما اصطلحنا عليه "نعي الذات" أو "موت الذات" أو "تصور الذات".

وبالطبع لا ينبغي الخلط بين هذا وبين مسألة "التفكير في الموت". وهناك مسألة أخرى هي السلوك اللغوي لشعره وشعره في نعيه. يروي المؤلف أو الشاعر تجارب حياته أو شعبه (الناس) بأبعاد واسعة، في الزمن أو في الوقت نفسه بعد الموت وفي فترته وجغرافيته.على سبيل المثال، أمامنا نوع من السيرة الذاتية، وهي كتابة السيرة الذاتية من قبل الشخص نفسه، والتي يكتب فيها التجارب الشخصية والفردية والهوية للمؤلف من أحداث حياته وفترته. 

ونحن هنا إلى جانب الشاعر الذي يمكننا، في النقد النفسي، أن نتتبع "صدمة" تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة وضربات نفسيّة وعاطفيّة تعرض لها وأجياله وشعبه، وتجاربه النعوية، وهي مجازية للغاية، دعونا نتفحص التاريخ الرمزي والأسطوري أحيانًا للدم والنهب وسفك الدماء والقمع.

بسبب المفاهيم والموضوعات والسرديات الشعريّة الفرعيّة والمواقف والأحداث، التي في الغالب يكون فيها النعي حاضراً، فإنّ اللغة الشعريّة لدى هليل تميل نحو بلاغة الكلمات، اللغة القديمة. 

وكما ذكرت فإنَّ المترجم العربي لهذه القصائد (أصغر علي كرمي) ترجمها بمهارة إلى اللغة الفارسية الهادفة. 

أي أن هذه المفاهيم والخيال القوي والصور السريالية وأحياناً العدمية والمروعة للقصائد لا تسمح لنا بترجمتها إلى لغة أبسط وأكثر طلاقة وحداثة باللغة الفارسية. 

إنّ مفهوم الموت والخوف والرعب وهذه «الصدمة النفسية» و»ازدواجية الحياة» الاجتماعية والسياسية لأرضه أثرت في كل حنين الشاعر وبيئة وجغرافية وطنه وبيئته الاجتماعية وحتى النفسية والعاطفية. وهو موجود تماما في كل مكان وفضاء محيط. 

كما يتضح في الأبيات الشعرية التالية: (طفل الخطايا الذي في رحمها غنى/ يفتش الله في أشلائه عنا/ كأننا وحدنا يا حظ في يده/ يا ليتنا لم نكن بالخوف آمنا/ الخوف بعثرنا من سوف يجمعنا/ نخشى تفسخنا في علبة المعنى). 

وكذلك مقطع من قصیدة أنحناء خارج المعنى: (نحن الذين يد تجتاح سنبلهم/ كل الأصابع فيها تتقن اللعنا/ نحن الذين على أجسادهم وقفوا/ وليس في يدهم شيء لكي يفنى/ يرددون أهازيج الذي طحنت/ رحى تعاسته أحلامه طحنا). 

  إن وجود العبث والمواجهة المصيرية للآلهة الأسطورية ومصير الإنسان في التقاليد القديمة للحضارة اليونانية وتناقضها، قائمٌ على التعاليم والمنهج اللاهوتي للحضارة الإسلامية، وهذا ما يتضح في خلفية القصائد. 

حيث أن النماذج الأولية ترتبط بتاريخ الحياة الازدواجية لأرض أجداد الشاعر، إذ إنها تظهر مثيرةً للجدل وللسخرية في بعض الأحيان.لكن حضور الموت وعلامته، في جعل الحياة تبدو جديرة بالثناء، هو السلوك المتناقض في كتابة الشاعر لموت الذات.

 وهو ما يتجلى في كل مكان، من الفردية إلى الهوية، ومن شخص لآخر، وفي مجمل شعب أرض لها تاريخ مليء بالعنف والإرهاب والموت: (يا خوف أنا بقاياك التي استترت/ في رحم سيدة خاطت لك الكونا/ فكيف تبذر عزرائيل في دمنا/ ونحن نغفو على أسمائك الحسنى). ومقطع آخر من قصیدة قارئة العيون: (قالتْ لي العرّافةُ العظمى: أتبصرُ جمرةَ الشيطانَ في عينِ الغضى اليسرى؟/ أتبصرُ يا حبيبي كيفَ يصغرُ حجمُها/ ويفرُّ منها الضوءُ ثمَّ يضمُّها لِ جحيمهِ شبحٌ وينثرُ فوقَها خُبْثاً فيحترقُ الوفاءُ). 

إن وجود الموت والعدم بوفرةٍ، في واقع الشاعر، على مستوى الموت الذاتي الفردي والهوية، أو على المستوى العام للناس في مثل هكذا أرض، له نظرة تاريخية لأصله ونظرة متزامنة لتوازي التدفق البيولوجي مع الأراضي والموائل الأخرى.

ويخلص الشاعر إلى أن هذا ليس هو الموقف والمنهج العدمي كما يعتقد نيتشه. إنها العودة إلى إعادة تقييم القيم الروحيّة الإنسانيّة في عصرنا هذا، مما يؤكد نفي الحياة الجديدة والنظرة الحميدة لها، كما في قصیدة ما تيسَّرَ من العدم: (للموتِ وجهانِ/ وجهٌ دافئٌ عبِقُ/ وآخرٌ بارِدٌ تشرينه نَزِقُ/ لم يُبْقِ تِيْناً لنا في العمرِ أو عِنَبَا/ من مسقطِ الروح لمْ يغمضْ لهُ شبقُ/ كأنَّ حوّاءَنا من ضلعِ خاطرهِ/ أتتْ لآدمَ فاحْمرَّتْ بِهِ طرقُ).

لم أعرف هذا الشاعر إلا بعد أن ترجمت قصائده إلى الفارسية. وبالطبع قبل ذلك كنت على دراية بالأدباء الشباب والمعاصرين في عالم الكتابة العربيّة، فقد كتبتُ مراجعات عن كتبهم الشعريّة والسرديّة. ولكن هناك فرق واضح بين هذا الشاعر وغيره، وهو حضور الموت والرعب في تباين وتمايز بين الحياة والأمل.

على جهة من هذه الحياة الثنائيّة، من الموت والإرهاب وخوف العيش في وطن كهذا، نواجه “صدمة نفسيّة” تاريخيّة للغاية وعميقة وانقساماً اجتماعياً وسياسياً. وعلى الجانب الآخر حياة من المعاناة والمشقة والعبثيّة، لكن مثل بروميثيوس، مقيد بالأغلال، لكنّه يأمل في النور والوعي، ومعرفة المستقبل، مما يجعل الحياة تبدو جديرة بالثناء.

 هكذا اتخذ الشاعر جانب الموت والخوف والرعب من العيش، ووضع الجانب الآخر في تأجيل المعنى وتأخيره. تحكي سيرة حسين هليل الذاتية عن فرديّة الهويّة الجماعيّة والتاريخيّة لشعب وأهل الأرض، المنفيين في هذا الوادي أو في الشتات لمهاجرين برمائيين ومتعددي ثقافات وهويات ينظرون باستمرار إلى الوراء وإلى الحاضر، ولديهم مستقبل مؤسف. نظرة الشاعر هي نظرة حزينة في الوقت نفسه عن الحياة اليوميّة وتاريخ العالم العربي، ويمكن أن تعيشها بروح السخرية المتفائلة اللاذعة كما في قصیدة ما تيسَّرَ من العدم: (يا ربُّ أنهارنا جفّتْ حدائقها/ وأجملُ الموت في أحيائها الغرقُ/ مفتوحةٌ أعينُ الموتى ومغلقةٌ/ عيونُ آبائنا في الأرضِ مذْ خلقوا/ هذي الحياةُ تقاسيمٌ على عدمٍ/ متى سيُعْدمُ في أرحامِها علقُ؟

الوهمُ يُمْسِكُ هذا الكونَ مِنْ يدهِ/ يجرُّهُ لسوادٍ نجمهُ قلقُ/ أسماؤنا نضجتْ من فرطِ ما احترقتْ/ أجسادُها في معانٍ خانَها ألقُ). 

-----

يُعدُّ دكتور جيهانبولاد أحد أبرز المفكرين والشعراء الإيرانيين، تتلمذ على يد الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي أستاذ لسانيات وعالم إدراكي وعالم منطق ومؤرخ وناقد وناشط سياسي، وأجرى حواراً موسّعاً معه ومع فلاسفة ومفكرين كبار أمثال سلافوي جيجك، هومي كيه بابا، غاياتاري سبيفاك، تيري إيجلتون وألاستير بينيكوك، حيث جمع حواراتِهم في كتاب أسماه (فلسفة القرن الواحد والعشرين).