مُدوّنة العنف في العراق

ثقافة 2023/10/17
...

   *عبدالله الميّالي


عن جامعة الكوفة صدر كتاب (مُدوّنة العنف في العراق: بحثٌ روائيٌ لأربعةِ عقودٍ دموية) للباحث د. أحمد حميد، المهتم بالنقد السردي وسوسيولوجيا الدين. الكتاب صادر ضمن سلسلة (دراسات فكرية) ويقع في 245 صفحة.

 رصد الباحث في كتابه، ظاهرة العنف بأنواعه: (السياسي، الاجتماعي، الأُسري، الحربي)، الذي تعرض له المجتمع العراقي، سواء من قبل الأنظمة الملكية أو الجمهورية ولغاية عام 2003، أو من خلال المجتمع نفسه، من خلال رصد الباحث لعدد من الروايات العراقية التي تناولت هذا الموضوع، وقد انتخب الباحث رواياته مدار البحث من تلك التي صدرت ما بين (1960 – 2002)، حيث شملت الدراسة 34 رواية للعقود الأربعة التي سبقت عام 2003، وسبب اختيار الباحث لهذه الروايات دون سواها لكونها تمتاز كما يرى (بفنية عالية، واتجاهات فكرية متضادة، وموضوعات واقعية وجريئة متصلة بمختلف الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، فضلاً عن اعتراف نقدي بالكثير منهم) ص14.

 ويبدو أن الباحث اختار الرواية من بقية الأجناس الأدبية الأخرى، من منطلق كون الرواية راصداً ثقافياً يوثّق الفعاليات الاجتماعية بكافة صورها، وعلى الرغم من بنائها الخيالي الأدبي يمكن أن تعد الرواية ملفاً أرشيفاً علمياً أيضاً. واستدعى الباحث في تحليل نصوص الروايات المنتخبة في كتابه، منهج (البنيوية التكوينية) وهو المنهج الذي برع فيه الناقد الفرنسي (لوسيان غولدمان) من خلال التركيز على بنية النص، وبعد ذلك الكشف عن العلاقة التي تربط تلك البنية بالمجتمع. مستعيناً بإحدى ركائز هذا المنهج وهو (الوعي القائم والوعي الممكن) في آلية تحليل النصوص الروائية. 

 وعلى الرغم من كون الروايات التي تناولتها الدراسة متباينة فكرياً، لكنها تشترك في تناولها لظاهرة العنف بأنواعه الذي طغى على المشهد العراقي خلال القرن العشرين وخصوصاً في النصف الثاني منه، حيث اكتسبت مظاهر العنف هذه طابع الوحشية المفرطة في بعض صورها سواء ما كان على مستوى القمع السياسي، أو العنف الأسري والاجتماعي، فضلاً عن نتائج الحروب الكارثية التي دخل فيها العراق. 

 والنصوص السردية التي كتبها أولئك الذين ينتمون إلى الخط اليساري، كان لها حصة الأسد في التمثيل الروائي في الدراسة، وهو تحصيل حاصل كما يقولون، وذلك لفاعلية المثقف اليساري في المشهد العراقي سياسياً وثقافياً خلال الفترة التي تناولتها الدراسة، وهذه نقطة لا يمكن الخلاف عليها أو تجاهلها. أما الحضور السردي النسوي في الدراسة فجاء بمرتبة أقل من نظيره الذكوري، حيث استدعى الباحث ثماني روايات لست روائيات فقط من مجموع 34 رواية حصيلة الدراسة، والسبب بطبيعة الحال هو تأخر الحضور النسوي العراقي في معترك الأدب السردي بشكل عام مقارنة بالرجل. أما حضور الكاتب الإسلامي فكان غائباً تماماً عن المشهد السردي في الدراسة، والسبب في ذلك كما يبدو لي هو عدم اهتمام التيارات الإسلامية في تلك الحقبة بالأدب السردي، واهتمامهم الأكثر كان في الميدان الشعري، التقليدي منه على وجه الخصوص، وربما توجد استثناءات قليلة جداً لم ينتبه لها الباحث.

 وإذ نشيد بالجهد الذي بذله الباحث في كتابه، وتتبعه ورصده لهذا العدد من الروايات والمصادر الأخرى التي أثرت الدراسة، وإثرائه المكتبة الأدبية ببحث ممتع ورصين ومتميّز، بل نتمنى على الباحث أن يكمل مشروعه هذا بدراسة تمثلات العنف لعراق ما بعد عام 2003 روائياً أيضاً، فإني أسجل على الدراسة ملاحظتين فقط:

 الملاحظة الأولى: في الصفحة 89 من الكتاب يقول الباحث: (غاب الإسلاميون عن التوثيق الروائي لحراكهم السياسي ضد السلطات الديكتاتورية، وذلك يُعزى إلى غياب الإسلاميين عن فن الأدب وتحديداً الجنس الروائي)، ثم كرر الباحث مقولته بصيغة أخرى في ختام البحث في الصفحة 212 (مع غياب صريح لكتّاب التيار الإسلامي، وهذا الغياب يعزى إلى التجربة الثقافية الفتية للأيديولوجية الإسلامية في العراق حينذاك). وإذ اتفق مع الباحث عموماً، إلا أنه توجد استثناءات، ويبدو لي أن الباحث الفاضل لم ينتبه لوجود رواية (الإعصار والمئذنة) للكاتب عماد الدين خليل، الصادرة في بيروت – 1985، وتقع في 178 صفحة؟ ففي الرواية مشاهد عنف تتمثل بقتل وسحل وشنق مَن يشتبه بأنهم مِن أنصار حركة عبد الوهاب الشواف في الموصل في عام 1959، عندما وقع الصِدام العنيف بين الشيوعيين (أنصار السلام) من جهة، وبين القوميين والإسلاميين أنصار حركة الشواف من جهة أخرى. والرواية تعطي مكانة ودوراً واضحاً للخطاب الإسلامي المتمثل بالشيخ هاشم عبد السلام وهو خطيب وإمام جامع (الشيخ عجيل)، ولبطلة الرواية (سلمى) ذات الميول الدينية المحافظة التي تم سحلها وشنقها إلى عمود الكهرباء.

 الملاحظة الثانية: قال الباحث في الصفحة 147 وهو يشير إلى رواية (المسرات والأوجاع) لفؤاد التكرلي: (أجاد التكرلي رسم شخصياته بواقعية عادلة بعيداً عن الإفراط في سلبياتها أو إيجابياتها). وليسمح لي الباحث الكريم أن اختلف معه في ذلك، فقد وجدت أن فؤاد التكرلي في روايته هذه قد تجاوز الواقعية المحلية في رسم بعض شخصيات روايته، وذهب بعيداً عندما تصرف معها كأنها صورة من الحياة الغربية المنفلتة. ومن تلك الشخصيات، الفتاة (فتحية) ذات الامتداد الريفي، فهي على الرغم من كونها (القروية الجاهلة) كما وصفها الروائي في ص99 من روايته، ولكننا وجدناها تتصرف في بيت أهلها بصورة منفلتة تماماً في مشاهد بعيدة عن الواقعية.