غزّة.. مَن يُحيطها بذراعيه ويتمتم بالنّار؟
المتوكل طه
يمشي..
عباءته المتجعّدة فضفاضة شفيفة. يندفع نحو البيوت المقصوفه، فيردّ الأكمام على كتفيه، ويرفع الركام، ويسحب المخبوزين تحت البنايات المترنّحة.
يحمل ساطوراً هائلاً، ويقف على مداخل المدينة، كأنَّه حارسها.
هو الذي فخت الجدران الاسمنتية بإصبعه، وحمل المقاتلين، الشهداء مع وقف التنفيذ، ليعيدوا الأرض إلى أصحابها، ويُثخنوا في ضبّاط الموت الموت. وهو الذي قاد بهم المركبات، مع الفجر، ليطوّحوا الأبراج الناريةَ المنصوبة نحو الحدود الخائفة. وهو الذي كَنس بجديلته ما تبقّى من جنود على المداخل، حتى تتحقق المعجزة التي فاجأت المحتلّين المذعورين، الذين انساقوا بهلعٍ وذلّة، نحو القيود.
يذرع المخيمات والبلدات، ويُلقي السلام على الناس.
يقف على صخرة راسخة، ويقول: إنَّ القتلة يستهدفون الأطفال والنساء والأسواق البريئة! فهل هؤلاء بشرٌ؟ أم أنّ أسفارهم الملغومة هي مَن يمدّهم بالذرائع لحرق اللحم الطريّ والطيور والرّضّع والزغب اللبنيّ؟ فكيف يقيمون معهم “السلام”، الذي لا يُفضي إلا إلى الهلاك والعنصريَّة والجنون والإبادة والفظائع المصوّحة؟ ماذا بقي فيهم ليحبّوا السلام، ونؤمن أنهم من نسل آدم؟
لقد رأوه، لكنّهم لا يعرفون اسمه، على وجه التحديد، لكنّ البسطاء يعرفون، ببداهة البصيرة المضيئة، أنّ هذا الشيخ يدرك نِفاق الغرب، الذي يبرّر فناءنا وشطبنا من قوائم الحياة! فيسألونه: هل انتهت الحروب الصليبيَّة يا شيخ، أم أنَّ كيان القتل هو ما يُمثّل المملكة اللاتينيَّة الأخيرة على شواطئنا؟ ولهذا يدعمونها.. على حساب دمنا النظيف!
وبعد كل مئة جنازة جماعيَّة، يسمعونه يقول لرجل يهرول نحو المقابر: كيف لبعض “اخوتنا” أنْ يُعانقوا هؤلاء الوحوش؟ ويفتحوا عواصمهم لأصواته المُنكَرة؟ ويصطّفّون معه، بتصريحاتهم المهزومة أو صمتهم الحقير، في إطلاق النار على الصغار ونوافذ الحبق؟
وبعد القصف، الذي يتجدد كل دقيقة، يقفُ متكئاً على عمارة، لم تصلها القذائف بعد، ويعدّ على أصابعه القنابل التي سقطت، والشهداء.. فيتلعثم، ويعاود الكرّة، لكنه يتوقّف، فقد تجاوز الشهداء الأرقام!..
نَظرَ الشيخُ في كأسِ النار؛ ثمة مَنْ يبتسم في قَعْرها، قال! والأوارُ يلمع على شفتيه؛ سيولدُ هنا، بعد الحطام والشظايا، وسيكون له عَرْشٌ ساحر، وستصل عرباتُه إلى أفاعي السواحل المُهاجرة.
في حضوره تتفوّقون على أنفسكم، وإنْ نظر إليكم ستتمّ المعجزة، وسيضحك لكم الزمان !
ستكون خيولُه بلا عدد؛ جلودُها ماءٌ، وأجنحتُها غامضة، وستبدو أشجارُه ترياقاً للقلوب .
لقد حملته في أحشائها لينتقمَ لها، لكنّه تجاوز الرمادَ، وتمرّس بالمعرفة والجموح، حتى دقّ عُنقَ الخرافة.
- لا مجد بلا معاناة - ..
وبكى الشيخُ حتى ابتلّت لحيته! ثم صرخ: النصر! العظيم!.. انتظروه ..
إنَّ أُمَّهُ تصرخُ من آلام المخاض. سيتناول أعداؤه العَشاءَ في الجحيم، ولن تكون شمسٌ في السماء، سيكون شمسَ الأرضين. سيُغطّي الأرضَ بدمهم، ويتبعهم إلى آخر الحشرجات. ستعلو صواريه، وينزل بالغيث حيثما يشاء، وسيفقأ عينَ البولاد والبوارج. ستشكره البواشق، ويمحو عُرفَ الديك الزائل، وتتلاشى صور أعدائه كالهواء. ستحترق الأبواق، ويذوب المعدن من الصراخ.
ستفيض الوديان والحُفر والأخاديد بالعفونة، والديدان وثياب الحديد، إلى أنْ تتجشّأَ الفراخ، ثم تدبَّ النار والطهارة، وتمطرَ غيومُ الصيف، سبعة أيامٍ بلياليها .
ربما لم تلده أُمّه، بل خرج من مرْجَل العويل والقهر .
سيجفّ على قميصه النُعمان، ويتقشّر فوق دفقات العَرقِ تحت الظهيرة .
سيدخل المدينةَ العصّية، كما دخلوا مدائن الأساطير .
سيلاعب السَبْعَ في الكمان .
سيحمل إليه أبناءُ التّيه صناديقَهم، ويفرحون بالعفو.
سيعضّ قلبَه عطرُ الزهرة ذات الخُصلاتِ الفاحمة .
وهو ليس هشّاً ولا نبيّاً، لكنه ينسى، كعادة البشر، أن ثمةَ خَوَنةً في البيت .
سيصل إلى المجهول والبعيد، ويتحدّث عنه التائهون في الأصقاع، وينسجون حوله الهالاتِ الني يريدونها .
سترقص له الغزلانُ في الغيوم، ويعذّبه بطنُ الجدول، ويحلم بحليب الياسمين .
سينثرون الأرزَ لياقةً تحت أسواره، ويشرق بالحِبْر الأبيض، وتسبح على جدرانه الغاباتُ والأحلام.
وحينما يبلغ القمةَ سيرى وُعورةً لا تبلغها أو تقطعها إلاّ الآلهة، فيضطر أنْ يسلك طريقَ البحر والمواقد .
سيرتجف ويقشَعرّ، هذا القوي العنيد، ولن ينحني، لأنه بعيدٌ عن العار وشهوة الخشب. ولن يتعجرف كالمُهر الأَرْعَن.
لن يخذله جسده، ولن تتجرأ عليه الأيام، وسيبقى عابداً زاهداً بسيطاً.. وباسلاً إلى أنْ يشيبَ الأحفاد، ويحملوا خارطةَ الروح.
ولأنَّ الافتراء ضعفٌ، والرؤيا بشرى، فلا بأس أنْ تضحكوا أيّها المتوحّشون، لأنكم لن تجدوا حتى الدمع، بعد حين .
ويبدو أنَّ فذاذته تكمن في أَنّهُ أنقذنا من أنفسنا .
إنه مكافح سماوي، وإنني أراه؛ في فرط الرُّمّان، وعلى سواحل الماكرات الّليّنة، وفي ريق السراج، وفي كأس النار.
وصرخ الشيخ: إنني أراه.. إنني أراه !
ماذا ترى يا شيخ؟
قال: إنها بداية النهاية، إنها نهاية البداية.
فاستعدوا يا قوم!
ثمّ يواصل السير إلى الشمال، وإلى الجنوب، كأنه يتفقّد الأحوال.. ولطالما رأوه يسحّ من عينيه دموعاً حمراء، يجمعها في كفيه، ويدلحها على الحقول الظمأى.
فمه مالح، وعيناه زرقاوان داكنتان، وشعره يضفضف بالفضّة، ويكاد طوله يغطّي الآفاق.
قال له صاحب دكان: أنا أعرفك يا شيخ..!
فابتسم، وقال أنا أعرف جدّ جدّ جدّك، كان يلعب معي على الشاطئ، وقد شهدتُ عُرس أبيه..
يحمل الجرحى والأشلاء المتناثرة في الأسواق، وإنْ كانوا مئة، على ساعديه، ويسارع بهم إلى المشفى.
يزيج أنقاض الأحياء، ويعيد فتح الطريق، ويرشّ الماء على التراب.
امتلأ ثوبه ببقع الدم التي دبّغته، لكثرة الشظايا والقنابل التي أصابت جسده، حتى لا تصيب البيوت.
يرونه جالساً عند رؤوس الأطفال المقتولين، يبكي، وهو يمسّد رؤوسهم المفغورة.
يخطً بإصبعه الأرض، فينشقُّ أخدود كبير طويل، لدفن الضحايا. ويبقى عند شواهدهم يتمتمُ بالنار والرذاذ.
هو شيخ من الماء، يسكن قرب البيوت على شاطئ غزة.
هو الذي ينسرب من تحت الأبواب، ليعود امرأه فقدت كلّ أبنائها.. يربط على قلبها بالنعناع، ويقبّل قدميها.
وهو الذي يُلقي بالركام بعيداً حتى يصل إلى لعبة القُطن، يحملها ليعيدها إلى تلك الطفلة المُثخنة الباكية.
ينتقي بإصبعيه قطع الحيطان المهدّمة، وما تقصّف من سقوف وجدران وشجر، وينعفها في السماء.. بعيداً، فتشهق بنثار الضوء.
وهو الذي أعاد المئذنة، التي شطروها، إلى حالها، ولبّدها بريقة لتظلّ واقفة.. كالمسلّة والنداء.
يعتلي حصانه الرّاعد، ويعرج به إلى السماوات، ليبكي على أبواب العَرْش لترحم غزّة.
وهو الذي حتَّ بإظفره جدولاً لتجري المياه العادمة المتفجّرة.. إلى المَصَبّ البعيد، حتى لا تغرق الحقول والأحياء.
وهو الذي يتراكض كالغيوم في الليالي، يحمل الأكياس على كتفه.. يوزّعها على المذبوحين والمتحلّقين في العتمات.
يفتح شريانه ليتدفّق النعمان، لترتوي البيارات العطشى، وتنفجر أراضيها بالشقائق وأزرار العندم.
ويغسل، بعد كل قنبلة، الطرقات، فيبدو ما تبقى من البنايات والشوارع مصقولاً بالرقراق الشاحذ.
وأراه، يجلس القرفصاء، وجهه إلى الشرق، وقد غرز كفيه، مثل معوليْن في قاع الحدّ الجنوبي والحدّ الشمالي، ويحاول أن يحمل غزة من جذورها، ويحملها إلى شرفة في بيته العالي، ويضعها هناك، ويحيطها بذراعيه.
إنه البحر.
* شاعر فلسطيني