من فلسطين وعنها وإليها

ثقافة 2023/10/18
...

أحمد عبد الحسين

هذا العددُ من “الصباح الثقافيّ” من فلسطين وعنها وإليها.
منها: لأنَّ موادّه كلّها من الغلاف إلى الغلاف هي لفلسطينيين، فنانين وشعراء وكتّاب وباحثين.
وعنها: لأنَّ كلّ كلام ذي مغزى هذه الأيام هو عن فلسطين التي تتناوب عليها منذ الأزل بطولاتُ أهلها وفجائعُهم.
وإليها: لأنَّه بأكمله تلويحةُ حبٍّ لأهلها وتضامن معهم، وإنْ لم تصل تلويحتنا إلى أطفال غزة فقد أخطأ سهمُنا مرماه.
وبعدُ، فإنَّ هذا العمل على بساطته نتاجُ خوفٍ. هو ثمرةُ خوفي الشخصيّ من تكرار دور المثقف العربيّ التقليديّ في الوقائع الكبرى؛ وهو دورٌ يتلخَّصُ بالذهول والعطالة والتسليم بحقيقة أنَّ الحدث أكبرُ من كلّ حديث، ثمّ الركون إلى هامشٍ قصيّ بانتظار واقعة أخرى أفدح.
كلُّ ردّة فعلٍ مهما كانت طائشة وبلا أملٍ هي أجدى من الصمت البليد. وكلّ حركةٍ نثبتُ فيها لأنفسنا ـ نحن معاشر المثقفين ـ أننا أحياء لم نزلْ، خيرٌ من وظيفة المراقب العارف الذي لكثرة ما يعرف تتفلّتُ منه القدرة على قول شيء، ذلك الذي أقنع نفسه أنَّه كالنفريّ اتسعتْ رؤيته فضاقت عبارته.
نريدُ العودة للفعل البدائيّ للكائن الحيّ، أنْ ينتفضَ جسده حين يُصعق، ويجفل حين يُخوَّفُ، ويندفع حين يغضب، ويصرخ حين يتألم. فهذه سماتُ الحيّ التي تخلّى عنها طواعيةً كثيرٌ من المثقفين العرب بدعوى أنَّها لا تجدي، لا تدفع ضرراً ولا تجلب نفعاً ولا تغيث ملهوفاً.
لا أحد ينتظر من المثقفين دوراً ملحمياً يقلبُ الرأيَ العامّ ويغيّر قناعات الناس، فهذا طورٌ من الأوهام اندرج في أرشيف ملفات الأحزاب الثوريَّة ولم يعدْ أحدٌ يتصحفه ولو على سبيل الفضول. الأجدى هنا السؤال عمَّا ينتظره المثقفُ نفسُه من ثقافته، هل هي صالحة للدلالة على رهانات الحاضر وقول شيء فيها؟ هل أنّ عدّته الثقافيَّة كافية لجعله حاضراً في المواعيد الضميريَّة الأخلاقيَّة الكبرى؟
انتهى الزمن الذي كان المثقف يظنّ فيه أنَّه ضميرُ شعبه. كلّ ما بمستطاعه الآن أنْ يصبحَ تأنيباً لهذا الضمير. فإنْ نجحَ في ذلك فقد أفلح.
فتعالوا نؤنّبُ ضمائر الناس، لنشعرهم أنهم ليسوا بشراً أسوياء حين يرون الظلم عياناً ويشيحون بأوجههم إلى شؤونهم الصغرى. وفي هذه الأيام هناك موعدٌ أخلاقيٌّ هو الأكبر واسمه فلسطين. هناك شعبٌ يذبحُ هو وقضيّته على الهواء مباشرة، بينما جمهرة المتفرجين يبرعون في اختلاق الحجج التي تخدّر ألم ضمائرهم حتى حين، أي حتى تنتهي المذبحة.
تعالوا نقرأ فلسطين وحدها، لا باسم العقيدة القوميَّة أو الدينيّة، لكنْ باسم هذا الوجدان الإنسانيّ السويّ الذي إذا سفحتْ كرامة شخصٍ في أقصى الأرض فقد سفحتْ كرامته شخصياً. باسم وطنٍ مسيحٍ لم يزلْ على صليبه منذ ثمانين سنة، والناس حوله بين يائسٍ باكٍ وساخرٍ ضاحك.
رأينا أنْ نترك للفلسطينيّ حقّه في الكلام عن فلسطينه. ولذا فإنَّ مادة هذا العدد كلّها كتبها فلسطينيون. حتى هذا العمود. كاتبه عراقيّ هو منذ أسبوعين فلسطينيّ من غزة.