{أنا وحصاني}.. سيرة من داخل الزنازين لقنّاص {عيون الحراميَّة}

ثقافة 2023/10/18
...

بديعة زيدان

تحت عنوان “أنا وحصاني”، صدر للأسير ثائر حمّاد، منفذ عملية “عيون الحرامية”، “سيرة من بين الجدران”، يعرفنا من خلالها ليس فقط على محطات من طفولته، وشيء عن والدته، وبداياته التنظيمية في حركة “فتح”، ولكن على ظروف الأسرى الصعبة، والعلاقة الملتبسة مع القيادة، وعلى أحداث بعينها من داخل الزنازين المتعددة، في كتابه الصادر حديثاً عن دار الفينيق للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية، عمّان.
وأشار حمّاد في مقدمة كتابه السيريّ إلى أنه لم يكن يتصوّر يوماً أن يقرأ الكتب، وخاصة كتب التاريخ الفلسطيني، أو أن يكتب نصّاً أدبياً أو سياسياً، لكن الإجرام الاحتلالي بحق الشعب الفلسطيني عامة، وبحق الأسرى خاصة، جعله يكتب، فالقدر والظروف الموضوعية التي تلقى على كاهل الأسير الفلسطيني هي التي تفرض عليه التغيير في نمط حياته، ففي حياة الحرية قبل الأسر كان كارهاً لشيء اسمه دراسة، بل كان متمرداً وخارجاً عن قانون المدرسة في قريته سلواد القريبة من رام الله، لا يطيق رؤيتها، أو المرور من أمامها، وحتى النظر إلى حجارتها وسماع صوت جرسها، كونها كانت كابوس طفولته.
هو السجن والسجّان الذي وضع الثائر أمام تحدٍ لا بدَّ منه، يدفعه نحو الكتابة والقراءة، لعلها تصبح يوماً واقعاً يعيشه الأسير بعد تحريره، أو تشكل إلهاماً ما للآخرين الذين يرون في كتابة الأسرى دليلاً على النضال والمعرفة والمقاومة، وفهم العدو، قبل أن يقدّم اعتذاره للمدرسة، كونه أدرك مقصدها في تعليمه متأخراً.
وفي “الحياة قبل السجن”، تطرّق حمّاد إلى طفولته في “سلواد”، حيث كان يهوى البراري والصيد في الجبال، فيما لم تغب عن ذاكرته مشاهد من يوميّات انتفاضة الحجارة التي انطلقت في العام 1987، واعتقال أشقائه الكبار، الذين تشرّب حبّ النضال منهم، وكيف كان جيش الاحتلال يقتحم بيت أسرته ليلاً نهاراً، مثيراً الرعب له ولأشقائه الصغار الذين كانوا يهرعون صوب والدتهم المنكوبة باعتقال الكبار من أبنائها.
وتحت عنوان “البداية” تحدث عن صعوبات التحقيق، خاصة إذا ما ترافقت مع جهل تنظيمي وأمني، يجد أنّه رافقه كما الكثيرين من أبناء تنظيمه بعد انشاء السلطة الوطنيّة، ففي “صبيحة 2/1/2004، دهمت قوة عسكرية إسرائيلية بيتنا، وبعد أن قامت بمحاصرته من كل جانب، ألقت القنابل الصوتية” تجاه بيت الأسرة، ومن ثم أتبعتها بصرخات عبر مكبرات الصوت مطالبة بفتح الباب، وهو ما فعله والده، فاجتاحوا البيت “بهمجيّة من دون مراعاة حرمته كعادتهم”، وبدؤوا الحديث مع والده حيث أبلغوه بقرار اعتقال ثائر، الذي تمَّ اقتياده إلى الجيب العسكري، وتحديداً إلى “مركز التحقيق في مدينة عسقلان المحتلة”.
وحين وصلوا به إلى مكان التحقيق طلبوا منه استبدال ثيابه بثياب السجن بنيّة اللون، بحيث “اختاروا لي أكبر بنطال لديهم”، وحين سألهم عن بنطال على مقاسه، ردوا: “سمعنا أن القادم إلينا مخرّب كبير فأحضرنا له هذا البنطال”!.
وكان أسبوع اعتقاله صعباً، فقبله أعتقل شقيقه الأصغر عبد القادر، وبعده شقيقاه أكرم ونضال، بحيث خضع الأخير للتحقيق في “عوفر”، وعند اعتقاله خضع ثلاثتهم للتحقيق في “عسقلان”، من دون أن يعرف أي منهم في الشهر الأول من التحقيق أنّ البقية في ذات المركز، إلى أن وضعوا في زنازين متجاورة بعد اليوم الأربعين للتحقيق، فبدؤوا يتحدثون من شقوق الأبواب، كي يطمئن الواحد منهم على الآخر، لكنها “كانت خديعة من خدائع المخابرات التي تهدف إلى الحصول على المعلومات، فحصل المحققون جرّاء ذلك على ما يريدون منّا، وبعدها جمعونا نحن الثلاثة في زنزانة واحدة، فبدونا لا نشبه أنفسنا، بسبب طول شعر الرأس والذقن”.
ولم يغفل حمّاد الحديث عن لقائه أولاً بالأسير فخري البرغوثي والأسير عثمان مصلح، ومن ثم بالأسرى مروان البرغوثي، ويحيى السنوار، وعبد الهادي غنيم، وغيرهم، كما أفرد صفحات للحديث عن تجربته في سجن “هداريم” حيث التقى بأحد صقور “فتح”، كما وصفه، الأسير تيسير أبو ردينة، وأسرى اعتقلوا قبل اتفاقيات أوسلو كجهاد غبن، ونعمان الشلبي، وأسرار سمرين، وغيرهم، وقيادات ممن اعتقلوا لنضالاتهم في “انتفاضة الأقصى” كعز الدين حمامرة، وزاهر مقداد، وإياد فنون، ومنصور شريم، ووليم الريماوي، وغيرهم.
اتسمت العلاقات في سجن “هداريم” بروح المسؤولية الوطنية من قبل الجميع، سواء في ظروف السجن الداخلية، أو على الصعيد الوطني الخارجي.. كانت الحوارات تدور وتثار حول القضية الفلسطينية وهمومها، وهذا يدل على أن الأسرى بقوا مصرّين على استمرار نضالهم حتى وهم داخل السجن، ويعيشون همّ شعبهم.. هذه الروح العالية عكست نفسها على بناء شخصيتي، ورتبت أولوياتي، بحيث انصب جلّ مطالعتي حول فهم القضية كأولوية.
وبدأ حمّاد من داخل الأسر رحلة تعليمه الأكاديمي بعد طول انتظار، وبعد أن أنهى فصله الثاني نقل إلى سجن “نفحة” الذي أمضى فيه قرابة العام، ومن ثم نقل إلى سجن “جلبوع” لعام آخر، وكان يدرّسه ورفاقه باسل غطاس، الأسير والنائب العربي السابق في الكنيست الإسرائيلي، وبعد ذلك بعام، نقل إلى سجن “نفحة”، وهناك أكمل دراسته النهائية في درجة البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية، بإشراف الأسيرين وليم الريماوي وياسر أبو بكر.. وفي العام 2021، تم اعتماده في برنامج الماجستير من قبل جامعة القدس المفتوحة، ومع بداية كتابة يوميّاته هذه كان قد أنهى الفصل الثاني من برنامج الماجستير بتاريخ 11 أيلول 2022.
وتناول حمّاد في سرديته السيريَّة هذه الزنزانة، متحدثاً عن تصميمها، والهدف منها، قبل أن يتحدث عن حالات التمرّد الجماعي للأسرى في السجون، كتمرّد سجن “هداريم”، وتمرّد “رامون”، ومن ثم يتطرق إلى عزل سجن “بئر السبع”.
وكان لنبأ اعتقال والده وقع كبير عليه، واحتل مساحة هي الأكبر من تفكيره، لكونه كان يتجاوز، وقتذاك، الخامسة والستين من عمره، ومن ثم فإنّ ظروف الاعتقال والسجن ستكون صعبة وقاسية للغاية عليه، خاصة أنّه أمضى قرابة الشهرين في “عوفر”، قبل أن يحكم عليهم بالسجن لثمانية أشهر.
وبعد رحلة عقابيَّة للابن اجتمع ووالده في سجن “إيشيل”، هو الذي لم يقابله على مدار أحد عشر عاماً إلا خمس مرّات في زيارات قصيرة، لكنه في السجن شاهده على طبيعته من دون حواجز تحجب الحقيقة، واحتضنه معانقاً، وقبل يديه وجبينه.
“بوجود الوالد، اضطررت أن أغيّر الكثير في أسلوب حياتي، سواء مع الأسرى أو مع السجّانين، فلم أعد أتدخل في شؤون الأسرى، إلا في بعض الحالات، فقد كان في القسم من يريد أن ينتقل عند أخيه الأسير في سجن الرملة لإصابته بالسرطان، وكانت إدارة السجن ترفض ذلك، ما دفعني لاستئذان والدي بأن أعتصم ورفاقي في ساحة السجن مطالبين بنقل رفيقنا الأسير عند شقيقه المريض، رغم أن ذلك قد يترتب عليه إجراءات بحق كل منا، ومن ثمّ الافتراق عن والدي”.
بقي ثمانية أشهر برفقة والده، حتى أنّهما انتقلا معاً إلى سجن “نفحة”.. “قبل صعودنا إلى البوسطة الخاصة بالنقليات، كانوا قد بدؤوا يضعون القيود في اليدين والقدمين، وحين كنت أنظر إلى والدي وهو مكبل بتلك الأصفاد ما يعيق مشيه، ويكاد يقع، وأنا أحمل الحقائب رغم قيودي، وعيني تراقبه، وأحاول إسناده خوفاً من سقوطه.. لاحظت نظراته تجاهي، تلك التي كانت لا تخفي الحزن والغضب الذي يكتنزه في قلبه وعقله، لكن يبدو أننا نحن، الاثنين، كنّا نمارس الشعور الخفي تجاه بعضنا البعض، من أجل عدم إظهار الحزن أمام السجّان المجرم.. الموقف الأصعب كان حين تمّ إبلاغ والدي بأنه سيتم الإفراج عنه.. كانت المشاعر مختلطة ما بين الحزن والفرح بهذا الفراق، وكانت آخر اللمسات، وآخر الأحضان، وآخر القبلات، وآخر مرّة أشتمّ فيها رائحته.. قمت بإلباسه أحسن الملابس، وزيّنته، وعطّرته، وقبّلته، واستحلفته بالله ألا يذرف الدمع أمامي وأمام الأسرى، وبالفعل استطاع ذلك، وأثبت أنه إنسان قويّ، وقائد حقيقيّ، وأب عسكريّ، ومناضل كبير”.
وانتقد حمّاد حالة عدم الإصغاء للأسرى من قبل القيادة، بقوله، “باب القيادة أبى أن يفتح رغم تكرار طرح أفكارنا عليه، ما جعلها تتلاطم في زنازيننا، ويعود حبر أقلامنا إلى الأقلام، فبقي صوتنا لا يسمعه سوانا، وأصبح الأسير يخاطب نفسه بعد أن طمح أن يخاطب قيادته قاصداً بذلك المساهمة في تقديم علاج لبعض القضايا التي يعاني منها المشهد السياسي، وتأثر بها الشعب الفلسطيني، وكذلك القضية الفلسطينية برمّتها”.
كما تحدث عمّا وصفه بتداعيات “الانقلاب الحمساوي في غزة” على الأسرى عامة، وعليه خاصة، فقد أدى إلى “انقسام الحركة الأسيرة، وتم التفريق بين أسرى (حماس) و(فتح) في السجون، ووصلت في بعض الأحيان إلى التفريق بينهم في سيّارات البوسطة.. ومع مرور السنوات، تغيّرت أنماط العلاقة، بل وتحوّلت الطاقات داخل السجون، وفي ساحات الوطن، ضد بعضنا البعض، ونسينا الاحتلال الذي أمعن في غرس أنيابه في جسد الشعب الفلسطيني برمّته”.
وعاد حمّاد إلى الحديث عن عائلته، فأفرد صفحات لأمه، وأخرى لأشقائه، متحدثاً أيضاً عن الحالة النضالية في عائلته منذ معركة الكرامة التي ارتقى فيها أول شهيد لعائلته، حربي حمّاد، شقيق جدّه، وكان أحد مناضلي حركة “فتح”، فيما أصيب عمّه في المعركة نفسها، وكان ابن عمّه الصغير نبيل شهيداً من شهداء انتفاضة الحجارة، وتحديداً في العام 1991، وهي الانتفاضة التي شهدت اعتقال أشقاء ثائر الثلاثة الكبار: ياسر، ونضال وإياد حمّاد أحفاد الحاج قدورة حمّاد، الذي اعتقل أكثر من مرّة ومارست سلطات الاحتلال التعذيب بحقه في مراكز تحقيقها، منتصف سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
وممّا خلص إليه حمّاد في سيرته “أنا وحصاني” أن “الاستمرارية في النضال والتضحيات، تؤكد للقاصي والداني، أن فلسطين لنا، والحق حتماً سينتصر على قوة الباطل التي يمارسها الاحتلال.. نحن باقون ما دام الزعتر والزيتون”.