المفارقة (Paradox) وجماليَّة التجديد الروائيّ الفلسطيني

ثقافة 2023/10/18
...

آمنة حجّاج

يُـمثّل إنتاج الرواية في الربع الأخير من القرن العشرين تياراً جديداً في تطور الرواية العربيَّة، وهو تيارٌ تجلّى فيه تعقّد الفكر، واتضح فيه نضجُ الذات المتأملة في إئتلاف متناقضات الواقع واستشراف المستقبل، فأنجب هذا التيار تجارب روائيَّة جديدة، تنصهرُ فيها رغبة التجديد الجمالي والفكري. وقد تميز هذا التيار بخصائص عديدة، ظهرت في مختلف عناصر الحكاية والخطاب، وكان من هذه الخصائص توظيف المفارقة؛ إذ سجل الأدب العربي المعاصر تحوّلاً في العنصر المهيمن، من اتجاه يقوم على محاكاة الواقع إلى اتجاهٍ يقوم على مجاوزة هذا الواقع ببناء المفارقة.

ومن النماذج البارزة في الرواية الفلسطينيَّة، التي كانت المفارقة مكوناً أساساً من مكوناتها، رواية (الصورة الأخيرة في الألبوم)، لسميح القاسم، الصادرة في العام 1980م، ومدارها على حياة الفلسطيني في الداخل 48، والعلاقة بينه وبين الآخر الإسرائيلي في (تل أبيب) التي كانت الفضاء الحاضن للمتن الروائي. وبدا أنَّ هذه الرواية تعتمد أسلوب المفارقة؛ لتعميق إشكال الوجود في إسرائيل وتناقضاته، والتحوّلات التي طرأت على العلاقة بين طرفي الصراع. وتُعلن الرواية في بدايتها موقفاً نمطيًّا للفلسطيني من المعيش في إسرائيل والعلاقة بالآخر، موقفاً نجده في قول أم أمير لابنها: “ستفتح دكّاناً يا ولد، وتبيع طحيناً وشفرات حلاقة. ماجستيرك في العلوم السياسيَّة، لن يجعلك ملحقاً في أيَّة سفارة إسرائيليَّة. اعترف بأنك لن تقبل أصلاً بالعمل في السفارات الإسرائيليَّة، إنها ليست سفاراتك، قلها بصوتٍ عالٍ ولا تخجل، أنت على حقّ! إنها ليست سفاراتك ولا سفارات المرحوم أبيك، ولكن ماذا تفعل بشهادة الماجسيتر التي حصلت عليها من الجامعة العبريَّة في (يروشلايم)؟ لا تتسرع. لن تقذف بها إلى المرحاض؛ فهي ليست صالحة حتى كورقة (تواليت)! علوم سياسيَّة يا بن الكلب؟ من أجل ماذا العلوم السياسيَّة، للعمل الدبلوماسي؟ لا بأس عليك! ها أنت سفير متجوّل لدى البطالة” ( ).
كما تُعلن موقف الآخر الإسرائيلي من وجود الفلسطيني في أرضه! “اخجل على نفسك ألا يكفي أنك تُشغّل العرب؟ ألا تدافع عنهم أيضاً؟ لا شكّ بأنك تحبهم.. تحب العرب.. قل ذلك بصراحة.. إنهم يقتلون أبناء شعبك وأنت تحبهم! [...] أنا أشغلهم؛ لأنني أربح من عملهم، ثم أنني أراقبهم جيداً، وهم لا يتدخلون في السياسة [...] أرض إسرائيل! قالوا لنا: تعالوا إلى دولة اليهود.. وها هي دولة اليهود مليئة بالعرب.. أرض إسرائيل! متى نصلك يا أرض إسرائيل؟! أرض الحليب والعسل!” ( ).
غير أنَّ هذه الرواية تنعطفُ بالذات الفلسطينيَّة نحو اتجاهٍ آخر؛ إذ يجسر الحبّ الهوة بين طرفي النزاع، فتنبت من أرض التناقضات المعادية ثمرة تخالف الكره المتعاقد عليه، وذلك من خلال قصة حبّ أمير الفلسطيني لروتي الإسرائيليَّة، في أثناء عمله في مقهى يمتلكه والدها، الضابط في جيش الاحتلال، فتمضي الرواية في تأثيث عالمٍ جديدٍ غير معادٍ داخل العالم الواقعي المعادي، عالم جمع مكوِّناته من علاقة الائتلاف بين الأضداد، وهي علاقة يتقبل فيها الطرفان بعضهما بعضاً؛ انطلاقًا من المبادئ الإنسانيَّة في ظلّ مجتمعٍ معادٍ، قائمٍ على فلسفة الرفض المتبادل.
وتظلّ الرواية تتأرجح بين الألفة والعداء إلى أنْ تنتهي بمشهدٍ يؤكد حدة الصراع “لقد فعلها والدك مرّة أخرى.. إنَّه بطلٌ حقيقيٌ [...] لقد صفّى والدك مخرّباً جديداً من هؤلاء العرب الذين ما زالوا يعيشون في بلادنا للأسف الشديد.. إنهم طابور خامس [...] انظري هنا [...] ها هي الصورة.. والدك يشرح للصحفيين العسكريين وجثة المخرّب ملقاة عند قدميه” ( ). ومقابل صورة الشاب (علي شقيق أمير) الذي قتله والد (روتي) في الصحيفة نجد صورة (روتي)، التي ألقتها إلى والدها ليضعها في ألبومه (الرهيب)، الذي يحتفظ فيه بصور قتلاه الفلسطينيين. وليست صورة (روتي) المنزوعة من بطاقة الهويَّة الإسرائيليَّة سوى مسعى لاستمرار الإئتلاف، بوجود صوتٍ خفيضٍ يساندُ الأنا الفلسطينيَّة، ويؤازرها في معاناتها. لقد توسل القاسم بالمفارقة؛ لصنع فضاءٍ يلائمُ تناقضات الواقع في المجتمع المهجّن، في بناء الأحداث والشخصيات خاصة، ليُقدِّم نماذج متنافرة، لشخصيات فلسطينيَّة وإسرائيليَّة تُظْهِر - حين تجتمع في صورة كليَّة - إئتلاف الشيء ونقيضه الذي تعمّق في الحوارات الداخليَّة والخارجيَّة.
وتعدّ رواية (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل) لإميل حبيبي الصادرة عام 1974م من الروايات المؤسسة لتاريخٍ جديدٍ في الرواية العربيَّة، فهي نسيجٌ سرديٌ جديدٌ تَركّب من مواد حكائيَّة انتظمت جميعها في إطارٍ تخييلي وغرائبي وجمالي، فتح النصّ على تعدد القراءات ( ). وتمثّل هذه الرواية قفزة نوعيَّة في مسيرة إميل حبيبي، الذي كانت له بصمة خاصَّة في عالم الرواية الفلسطينيَّة والعربيَّة. ويجد قارئ المتشائل نفسه أمام ثقافة عربيَّة قديمة، يعبثُ إميل حبيبي بوقائعها، ويقدم له بها متناً هجيناً، قوامه المفارقة المثيرة للضحك العادي، ويُـحوّله إلى ضحكٍ أسود ( )، وهو ما يُفسّر حضور السخريَّة السوداء - بوصفها عنصراً من عناصر المفارقة- حضوراً بارزاً في هذا النصّ. وقد كان من الملحوظ أنَّ نص حبيبي يُسلّم نفسه منذ العتبة الأولى للمفارقات، فللعنوان وقعٌ جماليٌ مدهشٌ للقارئ، أحدثه اكتنازه بالتضاد والغرابة وهو يحيل على الشخصيَّة المحوريَّة، سعيد أبي النحسّ الذي يطابق اسمه رسمه خلقة ومنطقاً، من عائلة المتشائل، وهي نحتٌ من كلمتين، هما: (المتفائل والمتشائم)، وهو رجلٌ لا يميز بين طرفي نقيض: “إنني لا أُميّز التشاؤم عن التفاؤل. فأسأل نفسي: من أنا، أمتشائمٌ أنا أم متفائل؟! أقوم في الصباح من نومي فأحمده على أنَّه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروهٌ في يومي أحمده على أنَّ الأكره منه لم يقع، فأيّهما أنا، المتشائم أم المتفائل؟” ( )، وهو رجلٌ يُعلن أنَّ حياته في إسرائيل كانت (فضلة حمار)، إذ إنَّ حماراً حال بينه وبين رصاصة كادت تودي بحياته في صغره. إنَّ هذا النص يكرّس منطق الإلغاء، فبطل الرواية موجودٌ وغير موجودٍ في اللحظة نفسها، موجودٌ باسمه الذي يحيل أصلاً على الإلغاء لا على الوجود ( ).
لقد اشتدّت أزمة فلسطين فانفجرت لدى إميل حبيبي “تشاؤلاً، وهو اسمٌ منحوتٌ لضحكة جدليَّة، يمتزج فيها التشاؤم بالتفاؤل [...] يضحك إذن إميل حبيبي من (كثر الهمّ) ويُضحكنا في انتظار أنْ تأتيه وتأتينا الفرحة.. فيبكي ونجهش معه [...] مأساة يرويها لنا الكاتب بلغة الملهاة، وفق مبدأ التشاؤم، ولكنه ما اكتفى بهذه المفارقة الأساسيَّة بل زاد؛ فذهب في التلاعب بالأضداد إلى المنتهى” ( ). لقد قدّم إميل حبيبي من خلال بطله (المتشائل) صورة صادمة من صور العودة إلى الوطن، إذ إنَّ سعيداً لم يعد إلى “وطنه المحتل؛ لأنَّ حنيناً للأرض أو الأهل شده، ولا لأنه صاحب ولاء وطني أراد المقاومة بالحضور؛ إفشالاً للتغييب. هو عائد؛ لأنَّ المنفى ضاق عليه، فارتأى العودة؛ حلًّا لضائقته الاقتصاديَّة. عاد وعمل عميلاً لدى المحتلين الإسرائيليين وعرقل محاولات الساعين للعودة من أبناء شعبه” ( ). ليس هذا وحسب؛ إذ خرج حبيبي بمتشائله من دائرة الأقليَّة العميلة المستحقة للنبذ، وأدخله في دائرة الجماعة المهمشة أو الفقيرة في المجتمع الإسرائيلي، وكشف من خلال صورة ذلك العميل عن مأزق فلسطينيي الداخل 48، فهم ليسوا أقل انسحاقاً من فئة العملاء، فهم جميعاً مثل سعيد، بقوا في إسرائيل (بفضلة حمار).
ولم يقتصر دور سعيد (المتشائل) الشخصيَّة الساقطة في العرف التقليدي في سرد تفاصيل خيانته لوطنه وحِطَّته، بل اضطلع بسرد الرواية الفلسطينيَّة المعارضة للرواية الإسرائيليَّة حول أبناء شعبه، وهي الرواية التي تُكرّس مبدأ الفلسطيني الذي باع أرضه لهم! إنَّ حبيبي، من خلال هذا النص الفريد، يحاول أنْ يردَّ للذات الفلسطينيَّة الوضيعة شيئاً من اعتبارها الإنساني؛ فالمتشائل ليس مجرد عميلٍ ساقطٍ بل هو -أيضاً- أنموذجٌ للمأزوم المنفي في وطنه الباحث عن هويته. ولعلَّ ذلك ما يفسر إلحاح الكاتب على توظيف التراث، لاسترداد ماضي الشخصيَّة، “تقف رواية المتشائل، باعتبار زمنها ومكانها، سدّاً في وجه الاضمحلال والذوبان في ثقافة المحتل المنتصر عسكريّاً، ففي رواية سعيد لقصته باللسان العربي واستحضاره للتراث والحكاية الشعبيَّة في سلطة تسعى لمحو هذا اللسان وهذا التاريخ مقاومة لا يستهان بها [...] في المتشائل -كما في معظم أعمال حبيبي- ثنائيات تعكسُ التناقض الداخلي الذي يعتمل في ضمائر المهزومين في ثقافة مغايرة، منتصرة. هو صراع الذات بين الحقيقة الداخليَّة والأخرى الخارجيَّة التي يفرضها الواقع” ( )، وهو الصراع الذي ظهر في إطار الثنائيات التي هيمنت على الرواية منذ العنوان (التشاؤم-التفاؤل).
لقد فرضت رؤية الكاتب للواقع المعيش ومظاهر التنافر في الداخل 48 هذا الشكل الجديد وحرّضت على توليد المفارقة فأصبحت الرواية فضاءً مُهجّناً، تنصهر فيه سلسلة من المفارقات -التي طالت العنوان والموضوعات وعناصر الحكاية والخطاب - وأساليب من التراث السردي، كالمقامة والسيرة والملحمة. وقد مثلت المفارقة في هذا النص “موقفاً من التراث الحضاري حين تتجه إلى إعادة تقييم التراث الفني الموروث، من خلال إعادة صياغته وتشكيله وتفسيره وتحويله” ( )، وهو ما يكشف عن الغاية الكامنة من وراء استحضار الفنون السرديَّة القديمة في النص القائم على المفارقة.
وقد أطلق شكري الماضي على هذا النمط الروائي الجديد، الذي حمل لواءه إميل حبيبي اسم (السرد المهجّن)، وبه استطاع حبيبي أنْ يوازنَ بين الضرورات الفنيَّة، والتفسيرات السياسيَّة، والجمع بين المعاصرة والتراث، وتناقضات الواقع، بحثاً عن العنصر الإنساني وسط الركام ( ). وفي هذا السياق، يقول توفيق بكّار عن التناقض في الرواية: “وإن وُجد التناقض في صميم المتشائل؛ فلأنَّ المتشائل في صميم التناقض بين قوّتين لا سبيل إلى التوفيق بينهما: إسرائيل وفلسطين، اسمان من الأضداد لا يجتمعان إلّا على الصراع وينصرفان في الرواية إلى مجموعتين متعاكستين من الأشخاص والمواقف [...] تلك فلسطين في الرواية تُـجدّد ذاتها عبر المحنة، فهي ضدّ الضدّ في وحدتهما الجدليَّة، تنمو تجاه المأساة، والتفاؤل يداخل بضيائه قتامة التشاؤم” ( ).
ومع أنَّ الرواية تتمحور حول الهويَّة السياسيَّة وتمد جسورها نحو الواقع الحقيقي؛ فإنَّ “حبيبي وظف تقنيات إقناعيَّة، فكريَّة، أسهمت في جعل الشكل الواقعي الحقيقي للرواية أكثر ضبابيَّة. في الرواية يلتقي الخط المأساوي العريض للأحداث التي تستند إلى التاريخ الموضوعي، ويمتزج بالخط المأساوي للأحداث التي تلمّ بحياة المتشائل. لكنَّ مجموع الأحداث والوقائع والتفاصيل التي تتراكم لصياغة المأساة، تأتي في معظمها من نسيج مادة ساخرة بالأساس. السخريَّة لدى إميل حبيبي حيلة دفاعيَّة، وحيلة أدبيَّة في ذات الوقت [...] هكذا استطاع حبيبي أنْ يميز بين النص التأريخي التوثيقي، وبين النص الواقعي الحقيقي، واستطاع أن يوظّف السياسة، وأن يجمّلها ويقربها للقارئ، لقد نجح حبيبي في تبديد رفض القارئ وعزوفه عن النصوص التي تعتمد المستوى المباشر والشفاف، وهذا هو ما يميز رواية المتشائل في الأدب الفلسطيني. لقد وظف حبيبي المفارقة (Irony) في اختيار الشكل الأدبي وأسلوب السرد، وفي طريقة عرض الأحداث، واختيار شخصيَّة البطل [...] هذا التوظيف نسج تناقضاً بين المضمون الجديّ، وبين التأثير الكوميدي على المتلقي، وأنتج نصّاً سلساً على المستوى الشعوري، وعلى المستوى الفكري والإدراكي القرائي. لقد جعلت السخريَّة والمفارقة النص نصًّاً قابلاً للقراءة؛ لأنها جـمّلت الجانب القبيح من السياسة، وكانت حيلة آنيَّة، أسهمت في تغيير الواقع/ الحقيقة “( ).
والمتأمل في الدراسات التي تناولت رواية (المتشائل)، يلحظ أنَّ تعاطي الدارسين للمفارقة في الرواية كان من خلال اتجاهين، اتجاه المفارقة (Irony) واتجاه المفارقة (Paradox)، ومرد ذلك - فضلًا عن أنَّه نتيجة فهم كلّ دارسٍ لمصطلح المفارقة واختياره لمرادفها الإنجليزي- إلى أنَّ النص ينجذب بقوة تكاد تكون متساوية نحو الاتجاهين (السخريَّة والتناقض). غير أنني أميل إلى أنَّ المفارقة التي تدخّلت في بناء مستويات الرواية جميعها (الموضوعات وعناصر الحكاية والخطاب والموقف والعوالم الممكنة)، لم تغادر التناقض، حتى وهي في قمة انجذابها نحو السخريَّة؛ إذ لم تكن السخريَّة في هذا النصّ سوى حيلة، أظهرت حدّة التناقض، ومشرطاً قدّمه حبيبي للقارئ؛ ليشق به جسد ظاهر النص، ويسبر أغواره.
إنَّ كتابات إميل حبيبي -المتشائل خاصة- تُعدّ من علامات الطريق في مسار الرواية العربيَّة التي اتخذت من المفارقة (Paradox) مكوّناً إنشائيًّاً لبناء المتن الحكائي، وهي مدرسة، كان لها كبير الأثر في إنتاج كتّاب الداخل الفلسطيني، لا سيما في اعتماد بعضهم على روح المفارقة الناظمة لمتونهم الروائيَّة فكرة وبناءً.