لكنِّي أحبُّ زينب

ثقافة 2023/10/18
...

زياد خداش

لا أعرف الشاعر محمد مهدي الجواهري، لا أستطيع القراءة له، أنا شخصٌ أمّي، لا أقرأ ولا أكتب، لكنّي أحبُ زينب، كما لم يحب أحدٌ أحداً، أنفاس حياتي متوقفة على عيشي معها في بيت واحد، ربما تستغربون من علو لغة ما أكتب الآن، وتناقض هذا العلو مع أميّتي، نعم هذه ليست لغتي، إنها لغة الأستاذ زياد خدّاش الصحافي والكاتب في جريدة فلسطين اليافاوية، رأيته مرةً يجلسُ في مقهى (اللمداني) في الطابق الأول من عمارة البلدية،

 أتذكّر ذلك اليوم تماماً، كان مشمساً، وأتذكّر التاريخ: 1 - 3  -  1945، دلنّي عليه أحد زملائي المتعلمين في شركة السكب التي أعمل فيها، وقفت أمام الأستاذ خدّاش خجلاً: أستاذي أنا سامي الأصفر عامل في شركة السكب، أحتاجك في أمر جلل.
رحّب بي الأستاذ، عزمني على كأس شاي، حكيت له قصة حبي لزينب ابنة عمي.
أستاذي حياتي دون زينب لا تساوي شيئاً، لكن لست متأكداً أن حياتها من دوني لا تساوي شيئاً أيضاً، أحبها منذ ثلاث سنوات، وأحلم بالزواج منها، لكن كلامها معي غريب جداً، تقول لي:
سأحبك جداً، وأوافق على الزواج منك فقط بشرط واحد أن تأخذني إلى اللقاء الشعري مع شخص اسمه محمد مهدي الجواهري، هو شاعر عراقي سيصل فلسطين بعد أيام، اللقاء سيقام في النادي العربي، زينب مصممة على الذهاب إلى اللقاء، فهي معجبة جداً بالشاعر، وإلا فسوف تعاقبني بعدم الحب والزواج، أريد منك أن تأخذنا إلى النادي، حتى توافق زينب على الزواج بي، تعاطف الأستاذ مع حبي الحزين، وعدني باصطحابي وزينب إلى لقاء الشاعر.
لقاءاتي مع زينب تحت الجميزة الكبيرة أمام شركة السكب، التي أعمل فيها في شارع القدس مقابل سبيل أبو نبوت، كانت تأتيني عند الساعة العاشرة صباحاً وقت استراحة العمال، تحضر لي معها طعاماً وحلوى، لكنّها كانت تحضر أيضاً شرطاً جديداً لزواجنا، فبعد أن حقّق لها الأستاذ خدّاش أمنيتها برؤية الجواهري عن قرب، قبل سنة تقريباً، لم تفِ بوعدها، ظلت تماطل، ولأنني أعشقُ وجودها كله بما فيه خذلانها لي، ما زلت أصبر، وأتحمّل.
في لقاء اليوم تحت الجميزة سلّمتني زينب طعامي ورغبة بحضور رواية (مجنون ليلى) للفرقة المصرية القومية، والتي ستعرض على مسرح سينما الحمراء، وافقتُ فوراً، واتصلتُ بالأستاذ خدّاش الذي تعاطف معي مرةً أخرى، مستغرباً تحملي لمماطلات زينب، لكن الأمور زادت عن حدها، فبعد أشهر وضعت شرطاً ثالثاً وهو حضور فيلم (غني حرب) في سينما الرشيد، لبشارة واكيم وحسن فائق، كان الخجل يأكلني، وأنا أطلب من الأستاذ مساعدتنا، كانت دور السينما والمسارح تُدخل الصحافيين مجاناً؛ ليكتبوا عن الأفلام والروايات، وتسمح لاثنين بالدخول مع الصحافي مجانا، ساعدنا الأستاذ للمرة الثالثة، طالباً مني إذناً لأن يكتب قصتي (متقمصاً اسمي) مع الضعف المقدس الجميل كما سمّاه في الصحيفة، وافقت طبعاً، فالمهم هو سعادة مجنونتي زينب.
تعاطفتُ مع سامي الأصفر العامل في شركة السكب، أحببتُ ضعفه الجميل أمام محبوبته زينب عاشقة الأدب والفنون، وحين أتاني يرتعش من الخجل؛ ليطلب مني للمرة الرابعة اصطحابه مع زينب، لمشاهدة حفلة لأم كلثوم في قاعة (سينما أبولو)، قلت له: هذه هي المرة الأخيرة، أرجوك يا سامي أوقف هذه المسرحية الكوميدية، كن قوياً، وهذا ما حدث، فبعد حضور سامي وزينب لحفلة أم كلثوم اختفيا من حياتي نهائياً، توقعتُ أن زينب قد وفت بعهدها وتزوجته، سنتان مضت على آخر مرة رأيتُ فيها سامي وزينبَ، ما حدث أواخر العام 1947 كان مروّعاً، فقد استيقظت يافا على خبر استشهاد شقيقين بلغمٍ انفجر فيهما، كانا يعدانه لتفجيره في طائرة (بن غوريون) الرابضة في مطار اللد، تحدّث الناس بتأثر وفخر عن بطولة الشقيقين اللذين انضما مع مجموعة من عمّال شركة السكب إلى فرقة ألغام تابعة للثورة في يافا بقيادة أبي حسن سلامة، وحين قرأتُ خبراً في جريدتي (فلسطين) بأن البطلين هما سامي الأصفر وشقيقه، لم أستطع الكلام، كدتُ أقع على الأرض، شعرتُ بندم شديد على إيقافي لمشروع ضعف سامي العظيم.
بعد شهرين بدأتُ أفكّر في استكمال كتابة قصة سامي وزينب على صفحات جريدتي، ذهبت إلى مديري (رجا العيسى) رئيس تحرير الجريدة، وقبل أن أفاتحه بالموضوع طلب مني أن أجلس، أحضر لي فنجان قهوة وبدأ في الحديث: لديّ قصة غريبة لك للكتابة، أتتذكّر سامي الأصفر وشقيقه اللذين استشهدا في انفجار لغم؟ لي قصة مع سامي غريبة بعض الشيء حضر إليّ قبل أشهر، كنتُ جالساً في مقهى داود، أراد مني أمنية غريبة، هي أن أساعده في حضور فيلم هو وحبيبته التي اشترطت عليه أن تحضر عشرة أفلام في دور سينما يافا؛ لتقبل الزواج منه و---
لم أعد أسمع ما يقوله مديري، وضعتُ رأسي بين كفيّ، وقفتُ بصعوبة موشكاً على الوقوع، خرجتُ، لم أكن مهتماً لمعرفة إن كان مديري نادى عليّ، أم أنه وقف مصدوماً من خروجي المفاجئ.