اليوم الخامس للفجيعة
ناصر رباح
بعد فجر السبت بساعة استيقظنا على صوت إطلاق صواريخنا، نحن نعرف الفرق تماماً بين صوت صواريخنا المنطلقة نحو الشرق وبين صوت ضربات الهاون والتي لن تتجاوز كيلوميترات معدودة، صوت الصواريخ يشبه إلى حد ما صوت جر سريع للوح من الصاج على أرض أسفلتية، وبالطبع نفرق بين صوت الرشاش العادي وصوت طلقات مضادات الطائرات، والجديد الذي صرنا نميزه حديثاً هو صوت الصاروخ التحذيري. صوت حاد ناعم سريع كأنه يثقب الأذن، لايرج الهواء، ترسله طائرة ال F16 لتنبيه السكان بأن هذا المبنى تحديداً يجب اخلاؤه، تمهيداً للصاروخ الآخر والذي سيتم إرساله بعد أقل من ربع ساعة، هذا سيكون صوته أكثر سماكة، بطيء وهادر والذي سيعقبه أيضاً صوت أكثر كثافة، متراخٍ بشكلٍ يائسٍ يهز الأرض المحيطة به، كما أنَّ البيوت المجاورة ستهتز معه كشجرٍ، وتعلو المكان سحابة من الغبار الأسود، هو صوت انهيار المنزل المنذور.
استيقظنا، الأولاد تناثروا خارج أسرّتهم باتجاه مخرج البيت بعيداً عن النوافذ، قلنا: رشقة صواريخ. وبدأنا في العد. كنا غالباً ما نصل إلى رقم ما بين العشرة والعشرين في المرات السابقة، الحروب السابقة والتي ستصل إلى رقم ستة بعد قليل، هذه المرة تجاوز العدد أربعين وأكثر. قال الابن الجامعي وهو يتنهد: وهكذا انتهى العام الدراسي. يبدو أنَّ القصة كبيرة.
بعد ساعة، اتضحت الأمور أكثر، توغل لعسكريين من أولادنا عبر السلك الحدودي، ذلك السلك الذي تصرخ فيه صافرات الانتباه لو حط عصفور عليه، الآن جميعنا في مدخل البناية، بيت الدرج البعيد عن النوافذ والقريب من الشارع، بدأ صوت الطائرات والقذائف ينهمر، نسمعها بوضوحٍ قريبٍ جداً، عائلتي وعائلة أخي في بيت الدرج، النساء بملابس ضافية وحجابات، الرجال والأولاد بما تيسر، جوارنا زجاجات الماء، الوثائق وجوازات السفر وشهادات الميلاد والأوراق المهمَّة في حقيبة قرب الباب، احتمالات قصف البيت واردة، احتمالات الخروج من البيت أكثر وضوحاً، الجيران يتصايحون لإخلاء البيوت، نحن قريبون من السلك الحدودي بمسافة كيلو متر واحد، حاسة السمع منتبهة بشكل متوتر، تتداخل الأصوات بحيث لا يمكن لخبراتنا السابقة من تمييز أي شيء سوى جسامة الأمر. الصواريخ والطائرات، الهاونات والقذائف، القلق والخوف على وجوه الجميع، نحاول التماسك قبل أنْ يقرع باب البيت بشكل ملح. ثلاثة رجال بثياب عسكريَّة وأسلحة ودراجة نارية اندفعوا لينضموا إلينا، أحدهم مصابٌ بطلقٍ ناري، الدماء تنزف منه وهو يتلوى، أحدهم يربط رباطاً على الجرح، والآخر يبدل ثيابه بأخرى مدنية، دقائق وغادروا، تركوا معداتهم لدينا وغادروا، نسيت أنْ أخبركم عن صوت الزنانات “الدرونز” التي تقصف المسلحين في مثل هكذا ظروف. صوت طنين نحلة هائلة، غادروا مدنيين فقط. الآن البيت أكثر تهديداً لدينا أسلحة، وربما قنابل، وربما تمت متابعة هؤلاء من قبل الزنانات. نعم نحن في خطر حقيقي وكبير، نحن منزل مستهدف الآن. تناسبنا كل هذا، وبدأت معركتنا الخاصة: لا كهرباء ولا ماء والانترنت يترنح. المخابز مكتظة بالطوابير، المواد الغذائية تنفد و... و... وماذا سنفعل بالأسلحة المخبأة؟
يتصل خالد الناصري: ناصر كيف حالك؟ أكتب شهادتك عمَّا يحدث؟ صحيفة عراقيَّة ستخصص ملفاً خاصاً بالموضوع. أمجنونٌ أنت يا رجل! بل من هو المجنون الذي سيطاوعك ويكتب.
شاعر من غزة
كسبتْ روحي الرهان
جواد العقاد
لا أحملُ في جعبةِ قلبي غيرَ الكلمات، ولا ذخيرة لديَّ غير الوجع الممتدِ من عيونِ أمٍّ مفجوعةٍ على ولدها إلى صرخةِ طفلةٍ تُدَوِّي في صعودها إلى الله.
في كلِّ جولةٍ من جولات الحرب أفردُ روحي على الطاولة لأقامرَ الحرب.. وفي نيتي طرحَ أسئلةٍ وجوديةٍ عليها:
هل شحذتِ حقدكِ جيداً؟
لا تجيب، وتقتل.
من أنتِ أيتها الحرب؟
أنا الدمُ، وحصادُ الألم.
أنا الانتظارُ والخوف والمواعيدُ المؤجلة، امتحان الإنسانية في محاكم بلا عدالة..
كلما شعرتُ بغارةٍ، أمسكُ قلمي وأكتبها..
أصنع صورةً شعريةً لها: دمٌ يفيضُ نحو السماء وسوادٌ يقتحمُ الأرضَ.. بياضٌ كثيفٌ تُفتِّحُ له السماءُ أبوابها.
يُخيَّلُ لي أنَّ الكتابة تردُ الموت.. حين أكتبُ، أشعرُ كأنني احتضنت أطفالَ غزة كلهم.
مرة أخرى أيتها الحربُ.. كسبتْ روحي الرهانَ إلا أنها ما زالت تنزفُ، تنزفُ، تنزف. نوافذها مفتوحةٌ
كي تَخرُجَ نارُكِ.. فلا تعودي.
شاعر فلسطيني يعيش في غزة
لم أتمكن من توديع شقتي
توفيق ابو شومر
أعتذر لم أتمكن من توديع شقتي.
أعتذر لمكتبتي المشحونة بذكريات السنوات، لأن قائد طائرة الأباتشي منحني إنذاراً معدوداً بالدقائق لكي أنجو بنفسي قبل أن يصدروا الحكم على شقتي الصغيرة بالإعدام! أعتذر لشقتي التي أشرفت على بناء كل حجرٍ من أحجارها.
لم أكن يوماً أتوقع أنْ تغتال مني قنبلةُ الحقد ذكرياتِ اختيار غرفة نومي التي اشتريتها بالتقسيط المُريح، وتغتال مني سعادتي عندما انتهيت من تسديد آخر قسطٍ من أقساطها، شعرتُ بالأسى لأنني لم أودعها الوداع الأخير!
وددتُ أنْ أقف في وسط قاعة الجلوس المكتنزة بالحكايا والذكريات لأرفع يدي اليمنى سلاماً وتحية لمخزونها من الذكريات،كيف أستعيد نكهة كوبي الخزفي الخاص المشبع برائحة قهوتي التي أعدها بنفسي؟! صديقي الملازم لمقالاتي وخطط كتبي.
لم أكن أعلم أنَّ اغتيال شقتي وشقة ابني وابنتي سيعيد إليَّ ذكرى مهدي الأول المغصوب من المحتلين الإسرائيليين، نعم أصبحت اليوم أكثر قرباً من مهد ولادتي الأول! سأظلَّ أردد ما قاله الشاعر المبدع، بابلو نيرودا: “اقطعوا كل الورود، واقتلوا كل العصافير، لكنكم لن تمنعوا حلول الربيع”.