باقر صاحب
يمكن القول إن ظاهرة ترييف المدن، عبر الهجرة المستمرّة للسّكّان من الريف إلى المدن، ليست وليدة اليوم والأمس القريب، بل البعيد، تقول بعض المصادر التي كتبت عن هذه الموضوعة، التي مازال تناولها مستمراً، بأنها رافقت نشوء الدولة العراقية وظهور النفط، والبروز الفعلي لظاهرة ترييف المدن، كان بعد تأسيس معامل إنتاج الطابوق، التي أنشئت في أطراف المدن، وهذا حفّز سكّان الأرياف إلى الانخراط للعمل في تلك المعامل، وبناء عشوائياتٍ سكنية لعوائلهم، قرب تلك المعامل، والأسباب واضحة، منها الفقر المُدقع نتيجة ظلم الإقطاعيين أيام زمان. ويذكر الكاتب كفاح محمود كريم، في مقالة له منشورة عام 2010، ما يدلُّ على قِدمِ تناول هذه الظاهرة، بأن عملية بناء العشوائيات» أصبحت أكثر انتظاماً وتوجيهاً قبيل إسقاط النظام الملكي وبعد قيام الجمهورية، حيث بدأت بالظهور مجموعاتٌ سكنيةٌ ريفيةٌ على شكل أحزمةٍ من الصفيح والصرائف حول كثيرٍ من المدن الكبيرة في أنحاء العراق، وبالذات العاصمة بغداد والمراكز الصناعية والتجارية والبترولية مثل البصرة والموصل وكركوك».
الأدهى من ذلك، إن النظام الدكتاتوري السابق، شجّع قضية الهجرة من الأرياف إلى المدن، لغاياتٍ سياسية وأمنيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ، بوساطة تمليك الفلاحين وأبناء العشائر، قطع أراضٍ، ومن ثم إنشاء مجمّعاتٍ سكنيةِ في أطراف المدن، وذلك لكسب ولائهم وتطوّعهم في الأجهزة الأمنية والعسكرية بعد انخراطهم في صفوف حزب البعث، الذي أصبح الحزب الأوحد، بعد ضرب الجبهة الوطنية نهايات عام 1978، وضرب الحزب الشيوعي، وحزب الدعوة الاسلامية.
ومن الناحية الاجتماعية والثقافية، هذا الخلط الديموغرافي سبّب تشويه التحضر المديني، وإضعاف قيمة المثقف العراقي، بوساطة سيادة سياسة التجهيل، كما أنّ المنافسة الشديدة على الوظائف وفرص العمل، بين سكّان المدن الأصليين، وأبناء الأرياف خلقت مشكلاتٍ اجتماعيةٍ واقتصادية، لاسيما بعد أن زجّ النظام المباد العراق في حروبٍ عقيمة، لم تجلبْ للبلاد سوى الكوارث المتمثلة في فقدان الملايين من شباب العراق بين قتيلٍ ومعاقٍ واسيرِ ومفقود، ومن ثم كارثة فرض حصار تسعينيات القرن الماضي. حصار وحروبٌ أعادت البلاد إلى الوراء، فتضاعفت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وازدادت معدلات الجريمة، بتناسب طردي مع التغيير الديموغرافي الناتج عن الهجرة من الريف إلى المدينة، والكثافة السكّانية المتزايدة بالرغم من الحصار، عاملان أدّيا إلى زيادة العوز والفقر والأمية بشكل غير معقول، حيث تسرب الطلبة من المدارس، والعمل بأجورٍ رخيصة، في كلِّ الأعمال البسيطة والشاقة، لأجل أن يعينوا عوائلهم.
كيف نجعل الفلاّح يعود إلى قريته، مؤمّناً هناك سبل العيش الكريم له ولعائلته، الحل يمكن في النهوض بالواقع الزراعي نهوضاً جذرياً؛ دعم الفلاحين من استصلاح أراضيهم إلى توفير كلّ مستلزمات الزراعة المستديمة، لكلِّ أنواع الحبوب والخضروات والفواكه. منع استيراد المنتجات الزراعية، كي يتم رفد الأسواق العراقية بالمنتوج الزراعي الوطني حصراً، هذا الأمر ينبغي أن تُوضع له ستراتيجيةٌ وطنيةٌ كاملة، بتأسيس مجلس أعلى للزراعة والمياه، يرأسه السيد رئيس مجلس الوزراء، ويضمّ وزاراتٍ عديدة، مثل الزراعة والموارد المائية والتجارة والكهرباء والصناعة. كلُّ وزارةٍ تقوم بإنتاج حلقةٍ من حلقات الزراعة المستديمة، على سبيل المثال، وزارة الصناعة توفّر كل متطلبات المزارعين من البذور والأسمدة، والمكائن الزراعية.