المدوَّّن والشفاهي في القرن الهجريّ الأول

ثقافة 2023/10/18
...

 أحمد الشطري

الحديث عن التدوين في القرن الأول للهجرة أو ما قبله ينطوي على الكثير من المجازفة ويفتح الباب على جدل لا يمكن أن يطمأن إلى نتائجه؛ وذلك لغياب الدليل المادي الذي نستطيع من خلاله أن نؤكد فرضية وجود ذلك التدوين، كما أن فرضية عدم وجود التدوين المطلقة هي أيضا فرضية جدليّة تصطدم بعدة نواقض عقليّة ونقليّة.
وبفرضية منع الرسول (ص) تدوين الحديث الشريف المتسالم عليها، وغياب الدليل الملموس على وجود مدوّن للحديث يرجع إلى تلك الفترة تصبح حجة القائلين بتلك الفرضية في تلك الفترة شبه مؤكدة إن لم تكن مؤكدة جزما، ولكن رغم ذلك فإنّ ثمة ما ينقض هذه الحجة عقلا ونقلا.
فمن الناحية العقليَّة نرى أن من الصعب الركون إلى عدم وجود تدوين للسُنّة أو لغيرها في عهد الرسول أو من جاء بعده من الخلفاء، ذلك أن الآيات القرآنية واضحة في أوامرها بالكتابة والقراءة، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة : 282] فهذه واحدة من الأمور التي فرضها الله عليهم وهو كتابة معاملاتهم، فمن المنطقي أن نفترض وجود مدونات لأمور أخرى بمختلف الشؤون التي تواجههم.
كما أن الحديث عن رسائل بعثها الرسول (ص) إلى ملوك الروم والعجم والحبشة ما يؤيد فرضية وجود المدونات، ومن غير الممكن أن تكون مخاطبات الرسول (ص) والخلفاء من بعده شفوية، أما من الناحية النقلية فقد ذكرت الروايات أن عبد الله بن عمر بن العاص كان يكتب الحديث عن الرسول (ص)، وكانت عنده صحيفة أسماها (الصادقة) وقد نقل عنها أصحاب كتب الحديث كأحمد في مسنده وأبي داود والنسائي والترمذي
وغيرهم.
كما أن رواية جمع القرآن يؤكد وجود مدونات لدى الصحابة، والرواية التي تتحدث عن العهد الذي كتبه علي بن أبي طالب (ع) لمالك الأشتر حين ولاه مصر والمخاطبات التي بينه وبين معاوية، والكثير من الروايات التي تتحدث عن وجود كتب لدى بعض المهتمين بالعلم في تلك الفترة، ومنها ما ذكر أن الحسن البصري وهو من رجالات القرن الأول كانت له مكتبة أحرقها حينما دنت وفاته.
ولعل في رواية صحيفة قريش التي تعاهدوا فيها على مقاطعة بني هاشم وحصارهم دليل مضاف على وجود عمليات تدوين على الأقل للقضايا المهمة
لديهم.
وفي كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي وهو من أدباء القرن الثاني الهجري ثمة قول يمكن من خلاله أن نستدل على وجود مدونات للشعر، فقد جاء في مقدمة كتابه "وفي الشعر مصنوعٌ مفتعلٌ موضوعٌ كثيرٌ لا خير فيه... وقد تداوله قومٌ من كتابٍ إلى كتابٍ" ثم يلحق ذلك بقوله" وليس لأحد- إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه- أن يقبل من صحيفة، ولا يُروى عن صُحُفي" وفي هذا الكلام دليل واضح على وجود مدونات سواء كانت على شكل كتب أم صحف متفرقة، وأرى أن ثمة أسبابا كثيرة تضافرت على عدم وجود تلك المدونات القديمة لعل من أهمها غياب التنقيب أو عدم جديته في منطقة الجزيرة العربية التي تشكل الموطن الأول للشعر العربي ومهد الرسالة الإسلامية، فضلا عن ما قامت به الحروب والحركات المتطرفة من تدمير وطمس للكثير من الآثار العربيّة والإسلاميّة.
ومع قناعتنا أنَّ الشفاهية كانت هي المعتمد الأساس في نقل ورواية الشعر وغيره، وهو ما يعضده عدم وجود مدونات تعود لذلك الزمن في الوقت الحاضر، ولكننا لا يمكن أن نهمل تلك الإشارات التي تزخر بها العديد من الروايات والتي تشير إلى وجود تلك المدونات، ولعل هذا ما جعل غريغور شولر (Gregor Schoeler) يشير في كتابه (الكتابة والشفوية في بدايات الإسلام) (The Oral and the Written in Early Islam) إلى أن ثمة تكاملا بين الشفهي والكتابي في القرن الأول وأنهما يكمل بعضهما الآخر، ولكن الأساس المعتمد والموثوق لديهم هو النقل الشفاهي.
ويخلص في كتابه الذي ترجمه (رشيد بازي) إلى نتيجة هي "أنه لحل هذه المسألة يجب التخلص من ثنائية شفوية/ كتابة، وتبني أطروحة شبرينغر والتي تقول، بضرورة التمييز بين الكتابات المدونة خلال الدروس والدفاتر المستعملة في سياق تعليمي محض والكتب كاملة الشكل والمبنى.. لأنَّ اللغة العربيَّة تستعمل مصطلحا واحدا، وهو كتاب، للتعبير عن كل أنواع الكتابة كيفما كانت: مدونات، مسودات على شكل دفاتر، عقود، كتابات منحوتة فوق الحجر، والكتاب بمفهومه الضيق".