سامر المشعل
لم يشهد العراق استقرارا سياسيًّا طيلة العصور التي مر بها، باستثناء فترات زمنية معينة، ساد فيها نوع من الاستقرار النسبي. هذا الاضطراب السياسي رمى بظلاله ليس عل الحياة الفنية والثقافية وحسب، إنما شمل كل مناحي الحياة العلميَّة والاجتماعيَّة والقيميَّة
والاقتصاديَّة.. إلخ.
ومثلما معروف أن الفن يزدهر ويتطور في ظل أجواء الاستقرار وحرية التعبير بعيدًا عن الخوف والإكراه ومقص الرقيب.
لو افترضنا جدلا أن مبدعي العراق في مجال الموسيقى والغناء على سبيل المثال لم تصل إليهم موجات التهديد والضغط والأساليب الفاشيستية، التي كانت تمارس ضدهم في زمن الدكتاتورية وسلطة الحزب الواحد، ولم يضطروا إلى الهجرة القسرية والهرب من قبضة السلطة، وعاشوا بحالة من الاستقرار ينعمون بالحرية.
ولم يضطر قحطان العطار وهو في قمة عطائه الإبداعي إلى الهرب، أو الملحن الكبير كوكب حمزة أن يقع في مصيدة السلطة، صاحب "الطيور الطايرة"، التي لم تعد إلى أعشاشها منذ منتصف السبعينيات.. كذلك الفنان المناضل فؤاد سالم، الذي غادر العراق مرغما وهو في عز نجوميته، والمطرب والملحن جعفر حسن بإحساسه الثوري، وهو ينادي باسم العمال والشغيلة الحالمين بوطن يحضن أحلامهم ويغسل همومهم، والفنان المترف الإحساس سامي كمال، الذي ظل تائها بين "جرفين العيون"، والملحن الكبير كمال السيد، الذي يعدُّ من أوائل قادة الحداثة باللحنية العراقيَّة من خلال أغنية "المكير"، والشاعر الكبير مظفر النواب، الذي سار به الريل إلى محطات أكثر اغترابًا وألماً، والملحن عبد الحسين السماوي صاحب أغنية "سلامات"، والملحن المتعدد المواهب طالب غالي، والملحن نامق أديب، الذي لحّن " تايبين"، والملحن حميد البصري وزوجته شوقية.. والقائمة تطول.
جنون السلطة وقسوتها حكمت على الفنان الشفاف صباح السهل بالإعدام، وهجّرت الشاعر الكبير سيف الدين ولائي خلف الحدود، حتى مات حبًا بالعراق، وسادية وطيش ابن الرئيس أدّت إلى اضطرابات عقلية ونفسية للمطربة الجميلة سهى عبد الأمير.. وجعلت العديد من الفنانين يقبعون في بيوتهم تأكلهم الحسرة، ويعانون من الإهمال لأنهم فضّلوا عدم المشاركة بمهرجانات الموت
والتمجيد.
لو إن كل هؤلاء المطربين والشعراء والملحنين والموسيقيين.. لم يغادروا العراق وظلوا يقدمون العطاء ويتنافسون إبداعيا، فأي جمال سيظهر للوجود.. وأي مكسب ثقافي وذوقي وفني.. سيسود المجتمع العراقي؟!.
وبعد سقوط الدكتاتورية بالعراق، لم تجرِ الرياح بما يشتهِ ويحلم به العراقيون، فقد تكالبت عصابات الشر والإرهاب على العراق، ما اضطر الكثير من الطاقات الإبداعية من مختلف الاختصاصات إلى مغادرة البلد للبحث عن ملاذ آمن لهم ولأسرهم، وبذلك خسر العراق ثروة ثقافية فنية لا تعوض بسبب التلوث السياسي.