علي العقباني
"داغستان بلدي" أو "بلدي داغستان" من منا لم يقرأ هذا الكتاب الجميل واللافت والشيق أو يطلع عليه ويتعرف على هذا البلد الآسر دون أن يراه، ويشتم رائحة الخبز والبشر والأعشاب والزهور ويتعرف حياة أخرى وحكايات وبشر من نوع خاص، داغستان البلد الآسيوي الفقير والمهمش، والتي تقع في جنوب الجزء الأوروبي من روسيا في منطقة القوقاز على طول ساحل بحر قزوين.
وتعني كلمة داغستان باللغة التركية بلد الجبال، هذا الكتاب والمكان ارتبط برجل اسمه رسول حمزاتوف.
ولد رسول حمزاتوف في عام 1923 في قرية "تسادا" الصغيرة القائمة على قمة جبل بداغستان، وكانت وفاته في الثالث من تشرين ثاني نوفمبر عام 2003، وبدأ الكتابة في سن مبكرة.
أنهى المرحلة الدراسيَّة المتوسطة في دار المعلمين في قريته، وعمل بعد التخرج معلماً في المدارس الابتدائية وممثلاً في المسرح الوطني ومحرراً في الصحافة المحلية، وكان والده الشاعر المعروف حمزة تساداسا ينظم الشعر باللغة العربية وباللغة "الآفارية" القومية، وروى حمزاتوف بأكثر من مناسبة، أن والده كان يكتب كل قصائد الغزل في النساء الأخريات باللغة العربية، لكي لا تفهمها أمه إذا عثرت عليها.
وبمناسبة مرور مئة عام على ولادته صدر عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة للكتاب دراسة بعنوان: "حمزاتوف بين جبال داغستان وقاسيون"، تأليف د. أيمن أبو الشعر، تقع في 134 صفحة من القطع الكبير، وتهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على خصاله الشخصية الحميمة، كما عايشها عن قرب مؤلف الكتاب، متابعاً طبيعة حمزاتوف الجبلية العفوية المرحة، وتمتعه بسرعة البديهة إلى جانب التواضع المميز والشهامة.
وربما يأتي السؤال ما الدافع أو الباعث الآن لكتاب عن حمزاتوف، يقول الشاعر والمسرحي والقاص د.أيمن أبو شعر حثَّتني على إنجاز هذا العمل عدة بواعث، أهمها محاولة الوفاء بوعد قديم كنت قد قطعته على نفسي بطلب من الشاعر الكبير رسول حمزاتوف، ولم أستطع أن أفي به في تلك المراحل الصعبة، وهو أن أنشر في كتاب خاص ما أختاره وأترجمه من أشعاره في المجموعتين اللتين أهداني إياهما، أما الباعث الثاني بما يراه الكاتب، فيعود إلى رؤيته لكتابات توحي أو تضمر إساءة لحمزاتوف في حياته وشعره وتوجهاته الإسلامية والقومية، ومحاولته تقديم الانطباع الصادق دون مبالغات عنه من خلال علاقته ومعرفته الخاصة به.
وفي دافع آخر للكتابة يحضر كون حمزاتوف يتقن العربية وثقافتها الإسلامية كما معظم سكان داغستان في مراسلاتهم وشؤونهم التوثيقية، وهو أمر تعلمه من أبيه مما يجعل قربه منا كبيراً، ويجعل مقاربة الأثر بينهما عملاً جديراً ومهمًا في البحث والمقارنة.
يقول المؤلف في مقدمة كتابه :هنا اكرِّس ما أكتبه تحديداً عن رسول حمزاتوف ولقاءاتي معه، وانطباعاتي عنه بقدر ما تسعفني الذاكرة، والرائع في الأمر أن الكثير من أحاديث رسول حمزاتوف ليست من النوع الذي يُنسى، على الرغم من تقادم عهدها، فمعظمها ينحفر في الذاكرة كحكمة تخال أنها تكثف تجربة الإنسان عبر آلاف السنين، ومن ذلك قوله: "يحتاج الإنسان إلى عامين حتى يتعلم الكلام، لكنه يحتاج إلى ستين عاما حتى يتعلم الصمت".
بدأ رسول ينشر قصائده الأولى في الصحيفة الأفارية المحلية: "بلشفي الجبال" منذ عام 1937، أي وهو مراهق في الرابعة عشرة من عمره، وهناك حادثةٌ طريفةٌ نقلها رسول إلى الجمهور مباشرةً في إحدى ندواته،
وهي من جهة تدلّ على روحه المرحة خفيفة الظل، وتشير من جهة أخرى إلى أن رسول حمزاتوف هو اسم شبه مستعار، وسأطرح هذه القصة، ثم نتوقف قليلاَ حول خلفياتها، وبعض التصورات غير الدقيقة حول الاسم الحقيقي
له.
لرسول حمزاتوف عشرات المؤلفات بلغته الأم بدأها عام 1943 بمجموعة: "الحب اللاهب والكراهية الحارقة"، ثم تتالت مجموعاته بعد سنوات، مترجمةً إلى اللغة الروسية، ثمَّ إلى معظم لغات العالم بملايين النسخ، لعلَّ من أهمها: "أصداء الحرب، كلمة عن الأخ الأكبر، وطن الجبلي ، قلبي في الجبال، السمراء، عند الموقد، وغوريانكا وهي ملحمة شعرية، حافظوا على الأصدقاء، جدي، احكموا عليَّ بقانون الحب، جزيرة النساء، حافظوا على الأمهات، اسمك أنت، ما دامت الأرض تدور، كتاب الحب، النجوم العالية، القرن العشرون، الغرانيق، حافظوا على الأصدقاء"، وكثير غيرها وأشهرها كتاب داغستان بلدي، الذي يمتاز بتنوع مواده وأساليبه.
أبدأ باعترافٍ جوهريٍ روحيٍ بأنني أحبُّ رسول من كل قلبي شاعراً وإنساناً، وأشكر الزمن الذي أتاح لي فرصة التعرف إلى هذا الشاعر الفذّ الرائع، حتى تخاله طفرة من طفرات الزمن الخصيب، إنه الطفل الصادق البريء، الذي يتصرف بنقاءٍ مطلق، ويحب ويتأثر أحياناً كأنَّه فتى في سن الثالثة عشرة، وفي الوقت نفسه يتحدث وينصح بشكلٍ غير مباشر كحكيمٍ عمرُه مئات السنين، رسول الذي أعدّه شخصيا بابلو نيرودا الشرق، بل والعالم، هو شاعر الحب والإنسانية عموما، ولكن ذلك لا يفقد شهادتي مصداقيتها، فمثل هذه المشاعر يشاركني بها الملايين ممن توفرت فرص قراءة أشعاره في مختلف دول العالم، فما بالك بالذين تعرفوا إليه عن قرب، لا سيَّما أولئك الذين نشأت بينهم وبينه ما يشبه
الصداقة؟!.