فتنةُ الرَّملِ لا نداءُ السواحل

ثقافة 2023/10/19
...

  طالب عبد العزيز 


 لئن لم أحسنْ غلقَ الباب ورائي يابنيّ، ورأيتني واقفاً بين الحَيرة والغياب، فقد أحسنتُ صنعَ أشياء كثيرةٍ من قبل، حملتك على ظهري مثلاً، وأخذتك إلى السُّوق، أستبدلُ قلمَك الأزرق بالأحمر. وكنتُ وقفتُ طويلاً بانتظارك، وأنت تستحسنُ القمصانَ والسراويلَ أمامَ المرآة، وتنظُرني بعينيّ رضا زوجتك. لا تقلق، إذا وجدتني  لا أبحثُ في الراديو عن محطة أخرى، فقد كنتُ بحثتُ عن وجهي في أكثر من شراع ويافطة ومدينة. ليس هناك ما يشينك إنْ وجدتني عاجزاً عن إكمال كأس النبيذ هذه، كثيراتٌ هنَّ اللواتي أكملتُ الدوارانَ على خصورهنَّ، لنْ اسمّي لكَ واحدةً.

2

  قلْ عن آلامك شيئا، وعن النهر، تخذله لقالقُ ثلاثة، وعن الرماد، مآلِك الاخير، قل عن أفراحك شيئا، سمِّ الأسرّةَ والشراشفَ والكلسوناتِ الحمر، وعن الشجرة تنالُ السماءَ، وعن الغياب، قل ما تكابدُه في الانتظار، عن السياج قل شيئا أخفَّ، من طابوقه ومصابيحه، يعلوك، فأنت في ظلاله إلى ما يشاء، وعن الظلام قلْ شيئاً، عن الطريق، تعبرك إلى ما ظلَّ يشتجر في الوجوه والقراطيس.. يضعُ خدَّه على الطاولة من لا يريد أنْ يقول شيئاً. يحمل حقيبته باكراً من لا يودّعه أحدٌ، ويحتفظُ بالصور طويلاً من لا يتذكره أحدٌ، ويهاجرُ من لا يبصرُ بحيرةً خلف نافذته، ولن يعود، لن يعودَ من تُضاءُ شرفتُه بمصباحٍ واحد. فتنةُ الرَّملِ لا نداءُ السواحل. 

 3

  على شبابيك المنتظرين تأخري بمغيبك أيتها الشمسُ، وقربَ أضرحة الأولياء أطلْ وقوفك أيّها الرَّب، هناك مَنْ هو شاخص بقلبه اليك، ويفتتُ كبدَه الخشبُ المهاجوني.. ليكن صمتُك مبهماً يا بحيرةَ النجوم. خذيني إلى عربة الموتى أيتها الخصوماتُ، لم يبق في الرايات عندي ما استفزُّ به الندم. . سبعٌ يطرقنَّ الروحَ، وسبعٌ يرفعنها، أفكّر بقميصيَ الازرق، أكثرَ مما أفكّر بالسماء، وانتمي لشجرة تجيئوني في الحلم، كلّما صرتُ إلى الفجر، هي تصدقُ في الوقت، وأنا أكذبُ في كتابٍ على الطاولة.

4

  في الضاحية التي تحتجبُ الشمسُ خلف نخلها، وتختلفُ الخنازير على أبواب بيوتها في الليل، ولا يجيئها المطرُ من خاصرة البحر، كنتُ قد أخذتُ عن ذلك نصفَ يومي. المتاجر تحت أقفالها ما تزال، والأرصفةُ تقتصُّ من المارة خطوةً أخيرة، كان حليب الصباح بارداً، كذلك تكون الأرغفة، وأفواه الأطفال، في أرخبيل القصب والثعالب ذاك أضلني الذي أرادني ليومه. 

 من غصنين تطاولا على سياج البيت أتيتُ، ومن حنجرة بائع التوت عبرت الرصيف، ولكي أمعنَ في الغياب،  كانت الأزقة لا تزالُ تراباً وكروماً في العتبات، يخرج الفجرُ من حدائقها بارداً، ومن رائحة الماء بأحذية التلاميذ المتعجلين إلى مدارسهم. أكرهتُ نفسيَ على هجرانها، لكنها تصعدُ بسوسنها السطح، في كلِّ مرة، ومن هناك ترفعني، شلّوا شلّواً .. أنا شلّوها الأخير الآن. استحضرُ كراهتها في ما قراتُ، كتباً وطلاسمَ وخصومات، فلا الورقُ يُفلحُ، ولا الصورُ، ولا القراطيسُ. كلُّ يافطة على أسيجتها تقودني إلى حانة لم أدخلها من

قبل.  

5

تربكني المسافةُ التي إلى خصرك، هذا الضوءُ الشاسعُ، أقانيمُ التيه والحرير لكنني، ومن خوف أُطمئّنُ القميصَ، تهالكَ مثل قطةٍ على السرير. تربكني، لأنني عرفتُ أنَّ المُضيَّ إلى الحَلَمَةِ شيءٌ عُجاب، فهو يخترقُ النهارَ ليصلَ اِبطك، محفوفاً بالآس والنحيب، حيثُ يختبئُ سوسنٌ كثير. هناك، سيكونُ الوقت عاقلاً لأوقظَ القطاةَ الصغيرةَ النائمةَ، ميزوبوتاميا النّورِ والظلال، أصيصَ الماء والنار. أعيدُ تركيب آلة النَّهار والليل، لن أكلم أحداً عن الصمت وفضائله، سأكتفي بمديحِ اليابسةِ في حبّة من الرمل، كيف لا وقد نأتْ شراشفُ، وتراجعتْ أقراطٌ وأساور. في قيعة الضوء تلك ساكون نائماً، مشفَّعاً بالقُبلِ، وطعمِ اللُّبان، وبالكثيرِ الكثيرِ  من الشجن.