فلسفةُ المغامرة وحداثةُ الإبداع

ثقافة 2023/10/22
...

  محمد صابر عبيد

يتردد مصطلح «المغامرة» كثيراً جداً لدى كثير من المشتغلين في حقول المعرفة المختلفة، وحتى لغيرهم من عامة الناس حين يحلو لهم الحديث عنها في سياق غير معرفيّ وغير إبداعيّ، فالحياة تحتاج في مفاصل مهمة منها إلى حضور هذا المصطلح على نحو أو آخر، وقد تبدو الحياة بعامة من غير مغامرةٍ ما عاجزة عن انتاج المعنى الحقيقيّ والجوهري لها، لما للمغامرة من فضاء احتفاليّ يمنح الحياة طرافة وقيمة عابرة للحدود التقليدية المتعارف عليها، بما يعني أن المغامرة عنصر أصيل في بعث الحياة وتجديدها وتطوير معانيها ودلالاتها؛ ومنحها كثيراً من النشاط والفعاليّة والتدفق والحيوية بالانفتاح على كسر أفق التوقع لأجل طراوة جديدة تخصب فضاء الحياة وتشحنه بالجمال.
يمكن القول إنّ جملة: «غامرْ تَجِد» صحيحة إلى درجة تكون فيها المغامرة سبباً من أسباب الجدّة في التحقّق أو الاكتشاف، بالمعنى الذي يجعل من انعدام المغامرة انكفاءً على مجموعة من المسلّمات المنطقيّة لا تقود إلى الجدّة والحداثة، ويفتح بوابة الحداثة على مصراعيها أمام المغامرة بوصفها آليّة مركزيّة من آليّات الحداثة، لما لها من قوّة ضمنيّة ابتكاريّة تخصّب الفعل والسلوك والممارسة من جهة، وتنعكس على تخصيب العقل والفكر والرؤية من جهة أخرى، بحثاً عن سُبُل جديدة تستوعب حركيّة هذا التخصيب ولا تبقى ماكثة في جحرها تلوك أسئلتها المكرورة بلا أفق جديد يقودها إلى هواء مغاير.
تتحصّل الرغبة في المغامرة لدى الكتّاب التنويريين والطليعيين من عتبة الثورة على السائد والقارّ والمألوف والمهيمِن والمتداوَل، وهي ثورة تطلع من عباءة المغامرة في أساس وجوهريّ من مفاصلها الحيويّة والفاعلة، فمعنى الثورة يأخذ من معاني المغامرة كثيراً من القيم والدلالات والفعاليّات الرامية إلى تقويض الواقع الراهن، وإحداث تغييرات جوهريّة فيه تسهم في إعادة انتاج المفاهيم والمصطلحات والتعاريف التي تصف الأشياء وتحدّدها، وقد تكون المغامرة على هذا النحو تمثّل السقف الأعلى للفعل الثوريّ الذي يعطي للثورة معناها الفعليّ الأكيد، في ضوء القدرة على انجاز الجديد والحديث والمختلف والباهر والمثير الباعث على الإعجاب؛ والمستجيب للرؤية المغامِرة في أعلى درجة من درجات تجلّيها وحضورها
وتأثيرها.
لا تولد المغامرة عبثاً بلا مرجعيّات ساندة تؤهّل المغامِر لخوضها والحصول فيها على نتائج واضحة؛ إذ هي تحتاج وعياً استثنائيّاً قادراً على توفير فرصة اتّخاذ قرار الدخول في معترك المغامرة، ولا يتأتى هذا الوعي النوعيّ إلّا إلى شخصيّة قادرة على إدراك الأشياء في المحيط، ومن ثمّ معرفة أن ما يتوفّر من أشياء أقلّ من أن تلبي طموحات الشخصيّة وتستجيب لتطلّعاتها، بما يتوجّب التفكير بالمغامرة التي تنسف القناعات السائدة وتبتكر قناعات جديدة وحديثة محلّها، يكون بوسعها فرض قناعات ذوات قدرة على الاستجابة لمنطق العصر وقوانينه وأعرافه ومزاجه وفضائه الذاتيّ والموضوعيّ.
تنطوي المغامرة في معناها الوجوديّ الحقيقيّ على فلسفة عميقة واستثنائيّة؛ على الرغم ممّا يبدو عليها من تسرّع وعدم حساب للنتائج وارتجال في اتخاذ القرارات وغيرها، فلا يغامر إلّا من كان ذكيّاً ومدرِكاً لحقائق الأمور؛ وعارفاً بأنّ الحلّ القويم والنموذجيّ والحاسم يكمن في المغامرة، التي لا تعني -ضرورةً- استجابة مرتجلة لحالة مراهِقة تحصل فيها المغامرة مجاناً، بل تعني فيما تعنيه وصول صاحب المغامرة المرتقَبَة إلى طريق مسدود في حلّ معضلة معيّنة، يضطرّ بعدها إلى الانتقال إلى حقل المغامرة لاستيلاد حلّ عابر للمواضعات التقليديّة في حلّها، بالمعنى الذي يؤكّد قدرة المغامرة على هذا النحو للدخول في سُبُل مغايرة تتجاوز السبل الطبيعيّة غير المسعِفة، ومن ثمّ العثور على الحلّ في اجتراح وسائل بِكر توفّرها المغامرة حين تجتاز الطبيعيّ إلى غير الطبيعيّ، والمألوف إلى غير المألوف، والتقليديّ إلى المبتكَر.
تحتاج المغامرة بطبيعة الحال إلى أدوات واستعدادات ومواهب غير عادية تؤهّل المغامِر لخوضها بجدارة واستحقاق وثقة، وعلى الرغم من أن نجاح المغامرة أو إخفاقها يعتمد على جملة عوامل لا تتوقّف على قدرات المغامِر فحسب؛ بل تتجاوزه إلى عوامل أخرى خارجيّة «زمنيّة ومكانيّة وظرفيّة» بوسعها التدخل لدعم المغامرة، أو العمل بالضدّ منها بما يعيق حركيّتها ويصدّها عن تحقيق أهدافها فتكفّها عن الاستمرار وتحقيق النتائج المطلوبة، وهو ما يلقي على عاتق المغامِر تبعات أخرى تُلزِمه أخذ الحيطة والحذر من كلّ ما يحيط به من ظروف وإشكالات، والتنبّه إليها في طبقات المغامرة كافّة حتّى بلوغ النتيجة النهائيّة الحاسمة.
لا يغامر من تنقصه الأدوات، ولا يغامر من لا يحبّ الحياة، ولا يغامر من لا يملك تطلّعاً كبيراً نحو الأعلى والأفضل والأندر، ولا يغامر الكسول ولا الاتّكالي ولا البخيل ولا الظلاميّ ولا المتخلّف ولا الرجعيّ ولا المنافق، كلّ هؤلاء وكثير غيرهم لا يغامرون لأنّهم لا يمتلكون حسّ المغامرة ولا مزاجها ولا رؤيتها ولا فطنتها ولا شخصيّتها ولا بسالتها، إذ تعوّد هؤلاء على انجاز ما تعوّدوا انجازه في السير ضمن طرق معدودة ومعروفة ومأمونة بلا مفاجآت، ومن الصعب عليهم ولوج طرق أخرى لا يعرفونها فالخوف يسكنهم ويهيمن على مقدّراتهم؛ ويمنعهم من الخوض في مياه جديدة لم يسبق لهم أن خاضوها لخشيتهم من الغرق، وشعارهم ذو النكهة الشعبيّة الحاجبة للمغامرة «امشِ شهراً.. ولا تعبرْ نهراً»؛ تمهيداً لقتل روح المغامرة واللجوء إلى الحلول السهلة مهما أخذت من الزمن ومحت الرغبة في التجاوز والتجديد والتحديث وعبور التحدّيات.