المهرجانات المسرحيَّة والسلوكيات المتقاطعة

ثقافة 2023/10/22
...

 د. علاء كريم

يعد المسرح مدخلا جوهرياً لفهم العالم وما يجري به، وذلك عبر العلاقة التي تربطه بالجوانب الحياتية وأيضا مع المؤسسات الفنيّة والثقافيّة الأخرى، وقد تحدث بعض التقاطعات أحياناً والتي تعمل على تفكيك هذه العلاقة من حيث الجوهر والمظهر، أي شكلا ومضموناً. فضلا عن وجود تقاطعات تحدث في المنظومة المسرحية نفسها، وتصل إلى الانعزال والابتعاد حتى في مواسم المهرجانات التي تعرض وتقدم عروضاً عربيّة وأجنبيّة يحتاج أن يشاهدها الجمهور العراقي وأيضاً النخبة من المسرحيين، وذلك لمعرفة إلى أين وصل العالم؟، وإلى أي مدى اثرت وغيرت التقنية الحديثة والتطور الحاصل على هذه العوالم الجماليَّة داخل فضاء المسرح.

لكن هناك تقاطعات أخرى وبعيدة عن البيت المسرحي، مثلاً في العراق لم نشاهد المؤسسات الثقافيّة والأدبيّة تحضر وتشارك هذه المهرجانات التي تعكس الوجه الثقافي والفني للعراق أمام وفود مختلفة بثقافاتها، تحرص على أن ترى العراق إلى أين وصل؟، وما هو مستوى التطور الحاصل عليه؟، لذا أرى أنا ومن منظور شخصي هناك اشتغال لأجل إثبات الذات على حساب الفن والأدب، لا لأجل الفن على حساب الذات، وهذا قد يعكس مستوى الثقافة وجحودها في فهم الآخر والتواصل معه. رغم أن المسرح يشتغل على التحول في المفردة وترجمتها داخل هذا الفضاء الإنساني، عبر أداء الممثل ولغة الحوار، وحتى لغة الصمت والجسد وجميع اللغات البصريّة والحركيّة. وقد تشكل هذه التقاطعات ظاهرة غير صحيّة في مجتمع يمتلك وعيا إنسانيا ومعرفيا له امتداد حضاري.
 اللعب في المسرح هو حوار من زاوية اصطلاحية تلامس كل الاجناس الادبية الاخرى، فهو يشتغل مع السرد والشعر وفن التشكيل والصورة الفوتوغرافية ومع الترجمة وكل أنواع النقد. لذا تعكس هذه التقاطعات مكنونات المؤسسات والأفراد وما يشعرون به اتجاه عالم المسرح الجمالي، ويمكننا، قراءة هذه الإشكالية من الزاوية الشكلية، ونعرف بأنه مساحة المسرح تمثل الفعل الحر المتخيل، والذي هو خارج نطاق الحياة العادية، وبعيداً عن النفعيّة، فهو ثقافة تحقق التلاقح الفكري والمعرفي فضلاً عن الجمالي في زمن وفضاء محددين، ويقدم وفق نظام خاضع لقواعد وقوانين ثابتة، كما أنه يخلق حياة اجتماعية تتأثر بالتحولات الحاصلة، حتى وأن ظهرت غرابتها بواسطة الآراء المقنعة. لنستخلص من ذلك أن المسرح ممارسة واقعية حرة ثابتة باعتبارها متخيلاً من أجل المتعة، تنتج وتتحقق في شروط زمكانية تجعلها تنزاح عن العادي والمألوف، وتقترب من المجتمع بكل تنوعه باعتباره يحول المتعة باتجاه الآخر، حتى وإن كان محاطاً بنوع من البراغماتية التي تجعله يتجاوز اللذة الخالصة. ولعل هذا ما جعل «باتريس بافيس» يؤكد بأنّ «للمسرح علاقة وطيدة مع اللعب في مبادئه وقواعده، إن لم نقل في أشكاله أيضاً».
يقال إن نقد الذات ونقد الآخر ممارسة توسّع من مجال الاختلاف، لكن في حقيقة الأمر وبوساطة هذه العملية قد نتجاوز العديد من الاشكاليات التي تعيق عجلة الاستمرارية الإبداعيّة، وأبطال فعاليتها، وأيضا يمكن أن نعيد إليها وحدتها، بعد أن قسمت إلى اتجاهات متعارضة بالرأي والخلق الابداعي، وهذا ما يسهم في نهاية الأمر إلى إظهار ثقافة يمكنها أن تعالج وتتجاوز الإشكاليات الحاصلة نتيجة هذه التقاطعات. لذا نشاهد أن بنية الحضور المسرحي الحقيقي في أوروبا تستند إلى الرؤى العلمية الأكاديمية بصفتها كونية، وهي واقع حال يفرض نفسه في هذه الطقسية، لكونها مجرد سرد محلي، تطور بفعل استمرار مضمر لثقافات مختلفة يصعب فرزها نتيجة انصهار مكوناتها وتحولها، لتعطينا في نهاية المطاف شكلاً بصرياً يمتد لتاريخ أدبي متعدد الأجناس، وأيضا بعد فني يعكس تاريخ الشعوب وأصولها، ومثال لذلك التاريخ المحلي الإغريقي، والروماني الذي جعل لنفسه، كأنّه التاريخ الإنساني الأوحد.
ويؤكد الدكتور عقيل مهدي يوسف على أن تجليات الأزمنة التي تعبر عن حكمة العراقيين وتواصلهم بالآخرين تجسّد ظاهرة المسرح، التي تقوم على أبعاد ميثولوجية، وأنثروبولوجيا واجتماعية ونفسية، وأدبية وفنية، هي بالتالي مجموعة علوم ومعارف يكتسب منها المبدعون لحظات من السعادة والافكار الصالحة، التي يمكن أن ترفد السلوكيات المتقاطعة، والتجارب التطبيقية المتنوعة بحاضنة خلاقة من الأبعاد الرصينة، لما يبتغونه من أهداف علمية وفنية وأدبية وفكرية.
وعليه، أرى بأن التقاطعات الحاصلة اليوم في المهرجانات المسرحية تمثل مواجهة للقوى الإنسانية عبر الفرضيات التي تخلق دائماً موضوعاً لرؤى وهمية مختلفة عن المفاهيم الواضحة، والتي هي جزء من التطور الثقافي المرتبط بالمشاهد الحياتية، وأيضا بالأمكنة الفنية الحاضرة في بنيتها ونماذجها، وايضاً في تواصلها مع الجمهور، ومن ثم، التواصل مع  المسرح في ضوء ما يمتلكه من مقومات، يمكن له أن يتداخل بتعبير واضح ليشمل علاقة الظواهر والاشتغالات الفنية والادبية وايضا الحياتية، ببعضهما مع البعض الآخر وعلى مدى الأزمنة المتعددة، وذلك لأجل تحقيق نجاحات وتجارب جديدة، يمكن بوساطتها تأسيس آليات التعامل مع التنوع الثقافي ومع الأمكنة التي ارتبطت به.