بغداد: سرور العلي
ركّزت بيسان العمري في أعمالها على أن تربط بين الجماليّات الضمنيَّة والشكليَّة مع ابتكار أسلوب خاص لا يقع تحت تأثير مدرسة فنيَّة بعينها، فالفنان الحقيقي بحسب ما ترى رهن مشاعره وأحاسيسه، فضلًا عن وعيه ورؤيته، وهو شيءٌ يخلو من الثبات، لأنّه وليد اللحظة والحدث.. ومع ذلك، فقد تنقلت العمري بين المدارس الفنيَّة على اختلافها، لصياغة مفرداتها الخاصة في أعمال مبتكرة ومعاصرة، فيها شيئاً من الانطباعيَّة والتنقيطيَّة بألوان وحشيَّة تمتاز بالصراحة لما للون من طاقة تنتقل من اللاشعور بداخلها.. هكذا يراها الباحث بالفنون التشكيليَّة، لكن بالنسبة لها فالأمر مغاير، لأنَّ الانطباع في شعورها الفطري، وبالنقطة خلق منذ الأزل حيث تكون الخلق، ولأنّها ترى النقاط في الكون بأبهى صورها، من نجوم، وكواكب، وقطرات الماء، والمرقط في جلود الحيوانات، كذلك التقسيميَّة في خلايا النباتات وتعريقاتها.
وتعتقد أنَّ المدارس التأثيريَّة والتنقيطيَّة جاءت لصياغة هذه الانطباعات في أعماقها بالوعي الفني الأكاديمي، وما تقوله أعمالها حقًا أنّها ترسم ما تراه، وليس ما هو موجود، مؤكدة "ما أراه غير موجود، بل هو مزيج من تحرير الرغبة والخيال، وخلق صلات بعيدة عن الواقع، في محاولة مني لإسكات العقل الواعي ومسلّماته، لتوقع الدهشة الفنيَّة في نفس المشاهد، ما يجعل من وقع العمل في شعوره أكبر".
والعمري فنانة تشكيليَّة فلسطينيَّة، ولدت في مدينة جنين، وحاصلة على درجة البكالوريوس بتخصص الرسم والتصوير، من كلية الفنون الجميلة، بجامعة النجاح الوطنية، عملت لدى وزارة الثقافة في نابلس، كما أسهمت بمنح دورات وورش فنية في مخيمات صيفية.
وبالرغم من التنوع في طرح المفردات والمواضيع في أعمالها، إلّا أنّها تتناول عناصر ورموز من البيئة الفلسطينيّة، وتسلط الضوء على قضايا المجتمع الفلسطيني، كذلك التهجير وعمليات النزوح، التي يتعرض لها الفلسطيني على الدوام، وما له من نتائج تنعكس على البيئة، ومعالجتها بوسائط متعددة، مثل الأكريليك والزيت والمائي وغيرها، كما نجحت بمجال النحت، لا سيما التركيبي المعاصر، وكذلك الرمزيّة المستوحاة من الثقافة والتاريخ الفلسطيني، في محاولة منها لتوثيق الهوية والثقافة، التي تتعرض لمحاولات التهويد، وسرقة التراث الفلسطيني العريق.
ومن الخامات المستخدمة التي لا تخصّ واحدة بعينها، لما لديها من فضول التجربة، إلّا أنّ إنتاجاتها السابقة كانت بالطين، والصابون النابلسي، لكنها وجدت شغفها بالطين، لأنّه أقرب إلينا كوننا مخلوقات صلصالية.. وكأنّها تتجرّد في عالم الماورائيات بعملية ازدواجية مع الطين المتشكل بين يديها، لتنزع عنه القشور الخارجيّة، بهدف إظهار الجوهر الدفين في كتلة من الطين.
ومن وجهة نظرها فإنّ كلية الفنون لا تصنع الفنانين، بل تكون الشخصية الفنيّة، وتصقلها داخل الإنسان، ليرتقي فيما بعد ويشق طريقه في الفنون البصرية على تنوع مجالاتها، ويترك بصمته الخاصة.
وعلى الرغم من شغفها الا متناهي بالفن، إلا أن الأمر لا يخلو من المضايقات، والعقبات التي تواجه الفنانين في فلسطين، ففي مجتمع يهمش الفنان، ويرى أنّ اهتماماته عبثيّة بلا جدوى تحت واقع احتلال مرير، جعل الفرد من عامة الشعب يسعى لتوفير حاجاته الأساسية، في زمن مليء بالمتطلبات المعيشيّة، وبات الفن كماليات إضافية يمكن الاستغناء عنها، على الرغم من رسالته الإنسانيّة الخلاقة، ومع كل ذلك وأكثر لم يحجم من دور الفنان في إيصال القضية الفلسطينيّة، فكل ما يقوم به الاحتلال هو خلق المشكلات، والفنان وظيفته تسليط الضوء على المشكلة وإثارة العقل، لإيجاد رد الفعل على أرض الواقع، وهذا بحد ذاته ولد الكثير من الأفكار، يمكن
للفنان عرضها، وتبني الكثير منها.
شاركت العمري في الكثير من المعارض الفنيّة، غاية في إيصال قضيتها للعالم الخارجي، أولها كان في جامعة النجاح الوطنيّة بذكرى يوم الأرض، ومن ثمَّ في معرض أقيم في مدينة رام الله لفناني الضفة الغربيّة، والداخل المحتل حمل عنوان (فضاءات لونيَّة)، كما لديها مشاركات دوليَّة، ومنها معرض (حكاية ولون الدولي)، وأقيم في كل من روسيا، والأردن، والضفة، وغزة، وفي المعرض الدولي (روح فلسطين)، في جمهورية تتارستان الروسيَّة.
تطمح العمري إلى مشاركات أوسع، لمخاطبة العالم بلغة الفن، وكل ما تتمناهُ هو الاهتمام بالفن عبر نشر الوعي بالثقافة الفنيّة، لما يعانيه الفنان من محدوديّة في التعبير نظرًا لضعف المتلقي، وعدم قدرته على إدراك المغزى الحقيقي وراء العمل في بعض الأحيان، أو التعاطي معه بمنطلق تشكيلي باستثناء دارسي الفنون والمهتمين بها، ما يخلق فجوة بين الفنان، والمجتمع الذي يعيش فيه.