ياسين طه حافظ
قبل أن ابدأ أذكر كتاباً ظل اسمه وشكله في ذاكرتي، ذلكم هو «التكسب في الشعر» للراحل الأستاذ يحيى الجبوري.. د.يحيى الجبوري جاء مدرّساً للعربيّة في ثانوية بعقوبة. لم يدرّسني ولكنا كنا مجموعة أدباء وهواة أدب - وكنت من الهواة، نلتقي في مكتبة بعقوبة ذات الغرفتين مقابل الشاخة، والشاخة تعني النهر وهنا -تعني واعني- خريسان.. خريسان الذي شمله التغيير الثوري فأسموه سارية!، لا أحد يسلم ولا أحد ينجو، ونعود إلى موضوعنا: التكسب في الشعر عرفناه عبر تاريخ الأدب العربي من جاهليته إلى حاضره. ومستوى التكسب درجات ومستوى التدني به درجات. وقد تعلو قصيدة تكسب في مديح خليفة سيء وغبي على قصيدة تنتمي للشعر وللفن الشعري وحده. وليس هذا بمستغرب حتى اليوم، للناس الاحياء في هذا الأمر ذكريات وشواهد وأسماء.
قبل الترسّل في الكتابة، لماذا لا نحب التكسّب في الشعر؟ جوابنا نحن مع بؤس الناس واللا عمل لهم وافتقاد مهارة أخرى وقد يوظف الفرد أياً من قدراته ليكسب ويعيش.. يمكن أن يتردد هذا أو ذاك، ولكنه يرى غيره اكتسب وتخلص من فقره وحتى أثرى، فيتأبى زمناً ثم يألف السيئة فيقرب منها، وينهي بؤسه بقصيدة تفرح صاحب المال فيهبه أو يضمه لحاشيته وهم في نعمة يتمناها الجميع وفي رغد وجاه. هذا نعرفه وهو ضمن ما نعرفه من جملة أسباب – لكننا نكره التكسّب لأنه يزكي السيء حيناً ويبالغ ويفرط، بل يكذب في اضفاء المكارم ورفيع الافعال والفضائل وربما القداسة!، الغريب أن هذا الافراط في ضخّ التعابير والصفات مما يتبادله أدباء اليوم ويقاضون مجداً بمجد وعبقرية بعبقرية وفرادة بفرادة أو قل بايجاز عطاءً بعطاء. هي مقايضة على كل حال. المهم أنَّ القصيدة تحولت بالتكسب إلى شحاذةٍ ونفاق وسوء عمل.
حتى الان قد يجد هذا سببا أو عذرا ويجد ذاك ضرورة. ولست مصرّاً على الابتئاس من ذلك أو على إدانته. فهي هكذا الدنيا ونحن هكذا نعيش، الاسترضاء قدرنا نحن بؤساء الارض لننجو ولكي نكسب خبزا. هكذا ترونني سمحاً حتى الآن غير حاسم ولا شديد وقد رضيت على مضض لرضاكم وإلا فالعيب عيب، ولا أمر بلا سبب. لكني اليوم، مستفزّ جدا، مستاء وكاره من تكسّب بشع وإن بدا مهذباً وبدا صاحبه المتكسّب فخوراً بشجاعةٍ كذبٍ ونضال كذب وادعاء شرفٍ كذب وكذب أمام الله ونفسه والناس. ذلكم هو التكسب بكراهة الوطن!
في بلداننا العربية وبلدان الشرق الأوسط وافريقيا وبعض كثير من آسيا وحتى من اللاتينيات، شكوى من نواقص الحياة المدنية ومن التوليفات السياسية الحاكمة ومن الحرمانات من بعض نعم الحضارة. هذا ما يجب الإقرار به علنا كما يقال. لكن: يجب ألّا نحوّل عدم الارتياح، الاستياء، إلى سلوك انتفاعي في التعبير الاحتجاجي أو الرافض لأي من تلك العيوب والنواقص. إلى سلعة نزايد ونتوسّل بها إلى نفع. إلى حضور اجتماعي، أو لنكبّر أنفسنا ونصغّر الوطن. أين الفضيلة في أن أشتم وأسيء إلى سمعة وطني بحجة الفساد أو الدكتاتورية أو رداءة الحكم وفي بلد فيه مثل تلك العيوب ومثل ذلك الحاكم؟، وأين الفضيلة في أن أجعل من ذلك مصدر انتفاع، فأنال من الجانب الكاره أو المناوئ أو المنافس لبلدي مرتّباً جيداً وأعيش بكرم منه؟، لقاء ماذا؟ لقاء شتم خصمه وإظهار عيوبه وفي هذا فائدتان للعدو أو للخصم، الأولى أنك تسيء إلى من يكره هو ويعادي، والثانية أنت تبعد هذه العيوب والسيئات عنه لتلقيها على خصمه أو عدوه.
يأتي شاعر ذو اسم ومكانة أدبية، فيضخ الهجاء “الحديث” على الحكام العرب في حضرة دكتاتور شعبه وفي ظرف سياسي واجتماعي أسوأ مما في تلك المجتمعات؟، ويفرط في الحماسات هنا لنجده هو نفسه، أو آخر مثله من ذلك البلد يقول مثل هذه المتاجرات في البلد المقابل؟، سوري يمتدح ويتحمّس في بغداد ويذم بلده أو الحكام العرب. وعراقي يسلك السلوك نفسه أو أسوأ منه في دمشق، هذا يتنعم في العراق وذاك يتنعم في سوريا. وعلى حساب من؟، أعرف شعراء وكتابا عاشوا في باريس، لأنّهم يدعون “المقاومة للاوضاع في مصر زمن مبارك”. واحد منهم كان يمتلك سيارة حديثة وجيبه في عافية. عراقي معروف، أو عراقيون، كانوا يعيشون هذا العيش، بل وأفضل منه في دول أخرى معروفة، وهم طبعاً معروفون.
أهو كرمٌ فقط يجعل الدولة التي تستضيف تكرم وتؤوي وترعى؟، ألا غرض آخر سوى أنّها ضد السوء والعيوب في المجتمعات وسوء الحكم في البلدان الاخرى؟، أم أن لها سياساتها وبرامجها وتشجّع من يتفق معها لا في كل الأهداف، ولكن في بعضها، الستراتيجي المهم؟.
داخل الوطن لنا مسألة أخرى: نعم وألف نعم، في البلد نواقص وعيوب شتى.
وحق وواجب كشفها لتخف أو لتنتهي. ولكن لماذا الكراهة دائمة ومطلقة حتى للعمل الجيد؟، ولماذا التشكيك بالنافع؟، ولماذا لا نحيي ونبارك المشاريع الجديدة النافعة والعمل الإصلاحي؟، أليست في مباركته والاشادة به وبأمثاله من الاصلاحات والمشاريع، تشجيع على المزيد مما فيه فائدة للناس ونفع عام، وهي أعمال ترضي الله والعباد؟، في أسوأ الظروف ثمة أعمال تستحق أن نفرح بها وأن نشيد بإنجازها أو حتى الشروع بها- العمل الخيّر النافع يستحق الذكر!.
نشهد اليوم أوسع حركة عمرانية وأكبر عدد من تبليط الشوارع في مناطق لم تشهد إصلاحا ولا اهتماما منذ سنين، أراهم اليوم فرِحين يتمتعون بشوارع معبّدة وشبكة مجارٍ ومدارس. قد لا يعرف البعض حتى أسماء هذه المناطق الفقيرة البائسة لبعدها ولمدى إهمالها. أليس هذا مفرحاً؟ لم أسمع حتى اليوم كلمة ثناء، أو في الأقل كلمة تشجيع. يمكن أن نقول شكراً ونريد المزيد!
كان حديثنا عن التكسّب وبدأنا بالتكسّب في الشعر. اليوم التكسّب بالكراهة، كراهة الوطن. أيّها الحريص، الثوري، الـ أي صفة من صفات الأمجاد، الخير يجب أن يُمتدَح ويستحق من الجميع الثناء.
والشر يُدان. ليكن الصوت دائماً نظيفاً ليمنحنا الرضا ولنقابله بالشكران. لسنا مع الخطأ في الوطن ولا مع الرضا بنواقصه أو بأي العيوب. هذه مُدانة بأعلى الصوت. لسنا أبداً مع الشر، الشر يجب أن يُطرَد! ولكن، ولكن لا يكن التكسّب بكراهة الوطن! الوطن يريدُ محبة ويريد مخلصين ويريدنا أيضا للعمل الجيد والنافع، ومعه!.