تخوم واهية بين الحياة والموت في فيلم {الآخرون}

ثقافة 2023/10/23
...

 دعد ديب  

قد تكون أفلام الرعب النفسي رغم حساسيتها وجديتها هي الأكثر تشويقاً ومتابعة لدى محبي الفن السابع،  ولا يزال فيلم الآخرون" The others " الذي قامت ببطولته المتألقة نيكول كيدمان التي حصلت على جائزة الجولدن جلوب عن دورها في الفيلم والذي قام بإخراجه اليخاندرو آمينابار من أكثرها رسوخاً بالذاكرة

ولايزال  صناع السينما يستلهمون منه ويستفيدون أسلوبيته المغرقة بالغموض والترقُّب في مخاتلة للمشاهد عبر مفارقة أفق توقعاته في سير الأحداث، وهو الفيلم الحائز على جائزة جويا الإسبانية  والمأخوذ عن رواية هنري جيمس" دورة البرغي"، " The Turn of the Screw" الرواية القوطية التي تحكي عن الأشباح والتي لاقت قبولاً كبيراً لدى القراء لاتباعها أسلوباً جديداً وكان مختلفاً عما تعودوا عليه وفيها من الإدهاش الشيء الكثير.   

تحكي قصة الفيلم عن السيدة غريس ستيوارت "نيكول كيدمان" التي تعيش وحيدة مع طفليها في إحدى جزر القنال الإنكليزية لأن زوجها يقاتل في فرنسا، إذ تستيقظ إثر كابوس أرَّقها في أحد الأيام مفتقدة لوجود الخدم في منزلها ومستغربة فراغ البشر من حولها، ولذلك أرسلت في طلب المزيد منهم وكان أن تم وصول ثلاثة منهم، حيث أكد الواصلون الجدد أنهم سبق أن خدموا في ذات المنزل مستنكرين إصرارها على إبلاغهم بالتعليمات المتبعة في الخدمة. 

خوف كبير يصاحب السيدة جريس على أطفالها لدرجة أنها لا تسمح بفتح النوافذ في المنزل ولا برفع  الستائر الثقيلة المنسدلة  لأن الشمس تؤذيهم لمرض غامض يلم بهم ويتعرضون للموت اذا ما تمت ملاقاتهم لأشعة الشمس ورؤية النور، مما يفسر الأجواء المعتمة والغامضة التي يعيش بها الجميع في البداية، ولكن مع الوقت يبدأ الأطفال  يلحظون وجود أناس يتحركون بالقصر بشكل غامض ويتحدثون وهم غير مرئيين بالنسبة لهم  وبدؤوا يخرقون أوامر الوالدة في اكتشاف الخارج لدرجة أن البنت الصغيرة تتبادل الحديث واللعب مع طفل يظهر لها اسمه "فيكتور"،  لنكتشف أن هناك عائلة من رجل وامرأة وسيدة عجوز وصبي يدعى فيكتور تعيش معهم في المنزل، ورغم رغبتها بمغالطة هذه الحقيقة وعدم السماح لأولادها بالتحدث عن هذا الأمر إذ أنها تعتقد أن هناك أرواحاً شريرة تقطن المنزل، فتخرج لتأتي بالقس وهناك تلتقي بزوجها وتعود معه إلى المنزل وتخبره بما تعانيه وأنهم أبلغوها بموته في ساحات القتال وعن دخلاء غريبين بهيئة شبحية يعكرون صفوهم، مما سبب له الحزن الشديد لكنها تستيقظ في صباح اليوم التالي لتجده وقد رحل، ولتفاجأ كذلك بأن الخدم نزعوا ستائر البيت كله، فتبدأ بالبحث عن الستائر وهنا يقع بيدها كتاب الموتى لتجد صور الخدم الثلاثة به ولتكتشف أنها هي وأطفالها موتى كذلك وتحت صورة كل منهم تاريخ وفاته، لنعود ونرى الأحداث من واجهة أخرى بعيدة عن جو الضباب والظلام المحيط بالأسرة والمجسد في بداية الفيلم، حيث نرى الأمور من منظار آخر حيث تقول والدة فيكتور لزوجها أن الاستمرار بالعيش بهذا المنزل مستحيل بعد أن تناهى إليها  أن الساكنة السابقة أي السيدة غريس قامت بخنق طفليها وقتلت نفسها، ليفاجأ المشاهد بالنهاية  أن هؤلاء الأغراب هم الساكنون الحقيقيون الأحياء وأن السيدة غريس وولديها وخدمها هم الأشباح الأموات في وجود موازٍ وهم غير مرئيين لبعضهم البعض.

  وكل ذلك في توظيف رائع للأجواء الشبحية والإضاءة الخافتة التي أخذت بتلابيب المتفرج ورفعت منسوب التشويق بشكل كبير، بالإضافة للموسيقى المعبرة عن الأحاسيس الداخلية حيث لعبت الموسيقى بديلاً عن الكلام المنطوق حيث اقتصرت الحواريات المتبادلة على جمل قصيرة محدودة.  

قد يكون تأويل حكاية الرعب النفسي وجو التهيُّب الذي عشناه مع الفيلم نوعاً من رسالة مفادها أن الاهتمام والحب الزائد والخوف المبالغ فيه تجاه أياً كان يصل إلى حد يخنق الآخر ويدمر حياته، وهذا نجده عند كثير من الأمهات نتيجة الخوف على أبنائهم لدرجة أن يعزلوهم عن الحياة نفسها وكلهم ظناً أنهم يقومون بحمايتهم من أخطار الدنيا ولكنها يغفلون أن الطفل كائن مستقل عنهن بالنهاية، وله كل الحق بالحرية واللعب والشقاوة وكذلك أن ينعم بطفولة سعيدة هانئة، بالإضافة للسؤال الذي يبثه العنوان من نحن ومن الآخرون في تبادلية الأمكنة والمواقف.

صنِّف العمل من أفضل أفلام القرن الواحد والعشرين للأداء المتميز للممثلين وخاصة نيكول كيدمان في دور السيدة غريس والطفلين ألاكينا مان وجيمس بنتلي بدوري آن ونيكولاس.    

وقد نجح الفيلم بتصوير عالم الموت والحياة قطبي الوجود في بناء تخيلي متشابه لما قد يحصل بعد الموت، فكلا العالمين يطل على الآخر بمروحة من المعاني تتفلت كهواجس أو ذكريات أو أحلام مشكِّلة ذاكرة جمعية تتنقل وتتحرك عبر سيالة الوجود البشري.