إنّهم يخرجون من تحت الأرض

آراء 2023/10/23
...

 محمد جبير

تعقد المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وازدحمت مياهه بأساطيل الغرب، التي تسعى لتحجيم رد الفعل العربي والإقليمي على الوحشية الإسرائيليَّة، التي تسعى إلى إبادة شعب بأكمله، هذا الشعب الذي عاش التهجير عشرات السنوات في البلدان العربية والغربية، من أجل تذويب قضيته، وتفتيتها من قضية مركزية إلى مجموعة من قضايا متشظية بإثارة الأزمات، التي تلد أزمات ناتجة من داخل الأزمة ذاتها

 فقد أسقطت عملية طوفان الأقصى أسطورة تفوّق الجيش الإسرائيلي، والتي اعترفت إسرائيل بالمفاجأة الصاعقة، التي كشفت عورة النظام الإسرائيلي أمام شعبه، وحمّلوا اليمن المتطرّف الحاكم في إسرائيل بقيادة نتنياهو المسؤولية الكاملة عن هذه الهزيمة التي لن تكون في صالحه، وهو مقبل على انتخابات، لذلك هرول إلى اليسار المعارض لحكومته لتشكيل حكومة «حرب» أسماها «طوارئ»، واتّفقا على هذه الحكومة، بمعنى أنّه لا فرق في السياسية الإسرائيليَّة بين يسارها ويمنيها، فإنّهم يسعون لإبادة المدنيين في غزة بذريعة إنهاء وجود حماس.

الوضع الداخلي لم يفُق حتى هذه اللحظة من رعب الصدمة، بل مازال يعيش فوبيا اليوم السابع من تشرين الذي أعادهم خمسين عامًا للوراء، ليستعيدوا مرارة الهزيمة في السادس من تشرين عام 1973، والذي شهدت فيه إسرائيل هزيمتها الكبرى، وتكبّدها الخسائر البشرية التي لم تكن داخلة في حساباتهم القتالية، في مقابل هذه المرارات تريد إسرائيل أن تعيد لذاكرة الفلسطينيين أن يعيشوا أيّام نكبة 1948، وتشريد شعبه من أرضه، وذلك ليحفظ ماء وجهه في هذه الهزيمة غير المتوقّعة، لذلك قذفت بكلّ قوّتها الوحشية لقتل المدنيين في غزّة، وقطع الماء والكهرباء والمواد الغذائية والصحية، وهي بذلك تسعى لقتل الشعب بكلّ ما تملك من أدوات حتى تستعيد هذه الحكومة اليمينية ثقة المواطنين.

لكن ما تفكّر به الحكومة الإسرائيليَّة في إعادة التأريخ إلى ثمانين سنة للوراء لن ولم يتحقّق ذلك، فقد ولد هذا الجيل المقاتل في الشتات، وذاق المرّ وهو يعيش غريبًا عن وطنه، وما العودة إلى أرض الوطن إلّا الحلم المستقبلي الذي لا يمكن التفريط به أو التنازل عنه، فأمّا الحياة في أرض الأجداد، أو الموت فيها من أجل أن تبقى الأرض طاهرة، ولا تدنّسها الأقدام الشريرة، وأمام الصدمة التي عاشتها إسرائيل والحاضنة الغربية لها دفعتهم إلى أن يصطفّوا مع المحتلّ، ويعلنوا وقوفهم ودعمهم في العدوان على شعب أعزل، لأنّهم عجزوا عن مواجهة الفصائل المسلّحة الفلسطينية، التي لم تعلن أيّ جهة أو دولة دعمها المباشر لهذه الفصائل، حتى أنّ هذه الحكومة الإسرائيليَّة راحت تلاحق الجرحى المدنيين من أبناء غزة في المشافي في غزّة. 

الداعمون لإسرائيل يهدّدون بعدم توسيع «النزاع»، بمعنى اتركوا غزّة تواجه الآلة الحربية الإسرائيليَّة وحدها، وتركوها تموت جوعًا وعطشًا، وتهدّم بيوتهم على رؤوسهم، هذا ما يريده الغرب وما يريده اليمين الإسرائيلي «الموت للعرب»، لأنّهم ليسوا بشرًا، كما رفعوا ذلك في شعاراتهم، بينما حمل الطرف الثاني المعارض لهذه الحكومة شعارات حمّلت الحكومة نتيجة الطوفان الفلسطيني، لينتج عن هذا الانقسام المجتمعي حكومة طوارئ «حرب»، لتقوم هذه الحكومة بكلّ الواجبات القتالية، وأُولى هذه المهمات الهجوم البري على غزة، وهي تدرك جيّدًا أنّ هذه المهمة صعبة جدًّا، وقد تكون مستحيلة، على الرغم من أنّه يسعى من ورائها إلى تحقيق نصر جزئي على الأرض، وقضم أراضٍ جديدة من غزّة وضمّها إلى مناطق الغلاف المحيط بغزّة، وهو في حقيقة الأمر إخلاء بعض مستوطنات الغلاف من ساكنيها، تحسّبًا لقصف من داخل غزة لهذه المستوطنات، وتمهيد الأرض للهجوم البرّي.

يدرك العدوّ أنّ هجومه البرّي لن يحقّق أهدافه كما كان ذلك في 2008 و2014، وهو لا يريد أن يكرّر كارثة خسائره البشرية نتيجة تلك التوغّلات في داخل غزة، حيث تشير الكثير من التقارير والدراسات العسكرية إلى أنّ إسرائيل في هذه الايام ليست أفضل حالًا من تجاربها السابقة، بينما تقدّمت الفصائل في حرب الشوارع والأنفاق، وأضافت العدّة والعدد المتطورة تدريبيًا على مستوى المقاتلين، وتقنيًا على مستوى المعدّات في هذه الأيام، وهي تعيش نشوة تفوّقها على العدو وتلقينه درسًا قاسيًا لا يمكن أن ينساه المجتمع الإسرائيلي، إنّه حتى الساعة يقاتل على جبهة واحدة، ويقاتل فصيلًا من فصائل المقاومة الفلسطينية، ومع ذلك ما زال يتخبّط في ردّ فعله على العمليات البطولية للمقاتل الفلسطيني، وهو الأمر الذي دفع حلفاء إسرائيل بعد أن رؤوا عجز وفشل الحكومة لامتصاص صدمة الطوفان ومواجهته، فأطلقوا رسائل التهديد للآخرين بعدم فتح جبهات جديدة للقتال، لا سيّما في الجبهة اللبنانية والسورية، وإذا كانت ردود الأفعال في الأيام العشرة الماضية ليست المطلوب في مواجهة الوحشية العدوانية لإسرائيل، إلّا أنّها من جانب آخر كشفت عجز المجتمع الدولي في لجم دموية حكومة نتنياهو، وهو الأمر الذي اتّضح جليًا في عدم الموافقة على الهدنة في اليوم العاشر، وفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية والطبّية، وإنّما فعلت العكس في مضاعفة الغارات والقصف الجوي على غزّة، حتى أنّ مخازن الانرو لم تسلم من القصف، وهو الأمر الذي يشير إلى أن إسرائيل ليست لديها محرّمات أو خطوط حمر في عدواناتها، وإنّما تبيح لنفسها استخدام الأسلحة المحرّمة في القضاء على المدنيين باستخدام القنابل الفسفورية لتحقيق النصر على الفلسطيني الأعزل، مثلما فعلت في حروبها السابقة حين استخدمت قنابل النابالم، ولم يحاسبها المجتمع الدولي على تلك الأفعال 

الإجرامية.