الفلسفة مع المنهج وضده

ثقافة 2023/10/24
...

 كاظم لفتة جبر

مما تعارف عند الدارسين للفلسفة في تناولها للموضوعات اعتمادها على أحد المناهج النظرية أو العلمية في تفحص وتفكيك وبناء الأشياء، إلا أنها كفكر تتميز بوصفها فكراً نقدياً، يحلل ويفسر ويعالج. فيظنون أن الفلسفة بوجه عام من دون منهج تعد فكراً، والفكر من دون فلسفة يعد تاريخاً، والتاريخ من دون فلسفة يعد خرافة بناها المجتمع. لذلك لا يمكن فصل الفلسفة عن المنهجيّة، لأن بداية الفكر الممنهج بدأ مع الفلسفة، وما قبلها يعد أسطورة أو خرافات خلقها الإنسان لغرض العيش. إلا أن الإنسان في عصرنا الآن طور تلك الخرافات بشكل علمي لتصبح الأيديولوجيات بدلا عنها.

فكل أيديولوجيا تحمل في عاتقها يوتوبيا ودستوبيا (أفكار خيرة، وشريرة) لغرض فرض سلطتها على الإنسان والعالم، وترى أن الحقيقة من جانبها، ولغرض فهم تلك الأفكار ومعرفة حقيقتها، نتساءل هل تعاملت الفلسفة والفلاسفة بالمسطرة وطريقة واحدة مع جميع الأفكار والمواضيع؟.  
لكن في رأينا أن الفلسفة كفكر لها ماهيتها التي تعرف بها، وماهية الفلسفة النقد، لكن هذا النقد يخضع لمستلزمات التحقق، ولغرض الايفاء بذلك يستغل كل فيلسوف طريقاً (منهجاً) بلغة ديكارت لمعرفة الحقيقة واعتمادها.
فكل الفلاسفة لهم نفس المركب، لكن مسيرتهم في اتخاذ الطرق مختلفة، فالمفاهيم هي المدن والطرق المعبدة التي يستغلونها لمعرفة تقدمهم باتجاه الحقيقية، لذلك كل فلسفة تميزت بصفة تميزها عن غيرها سواء عرفت بأسماء الحضارات أو بأسماء الدول أو المدن أو الجماعات.
مثل الفلسفة اليونانيّة أو الاسلاميّة أو المسيحيّة، أو الفلسفة الالمانيّة أو الفرنسيّة أو الأمريكيّة، أو جماعة فيينا، أو البراغماتيّة، التفكيكيّة أو البنيويّة، والسيميائيّة.. إلخ.
ويرى الفيلسوف الايطالي وعالم الرياضيات بولزانو في كتابه (ما هو الفيلسوف): في الفلسفة يجب على كل واحد أن يقوم من جديد بالمسعى نفسه الذي يقود إلى النتائج التي يتبناها.
ويضيف الأمريكي ليروي في كتابه (العلم والفلسفات) أن الفلسفة تكاد لا تكون سوى المنهاج، وأن الفكر يستطيع أن ينفذ، مع الزمان إلى كل ميدان، ولو كان يزعم أنّه خاص بالعلوم المسمّاة بالموضوعيّة.
ويشير الدكتور الطاهر وعزيز في كتابه (المناهج الفلسفية) إلى ارتباط تعليم الفلسفة عند اليونان بتلقين طرائق التفلسف، هذا التلقين الذي يسبق الاقدام على الفلسفة، ويشمل التمرين على طرائق الجدل والاحتجاج، فقد أدرج أفلاطون في أكاديميته تمارين على المناهج العلمية وطرائق الجدل، بل أن ديوجين الكلبي الذي دحض حجج زينون على نفي الحركة بأن قام ومشى ذهاباً وإياباً، ضرب تلميذه الذي اكتفى بهذه الطريقة في الدحض، وصاح قائلا بأنّه لا ينبغي للمتعلم أن يتقبّل الأسباب التي قبلها هو من قبل دون أن يضيف أسبابه الخاصة.
وقد قيل عن بروتاجواس إنه أول من علم أنه يمكن في كل مسألة أن ندافع عنها أو أن نعارضها، أو أن نؤيد القول ونقيضه على السواء.
وقد استقى أساليب منهجه من زينون الأيلي في الجدل وقد أفرغه من محتواه، وأخذ منه شكله الصوري ليخدم طريقته في الجدل، وقد أدان أفلاطون هذا الجدل وقد استخدمه في معينين مختلفين.
أما أرسطو ففد علمنا كيف نميز بين الأغاليط والاستدلالات الصحيحة.
كما يجب التفريق بين الجدلين، فمن حيث السوفسطائي اتسم بالجدل الخطابي، بعكس الجدل الافلاطوني والارسطي فقد عرف بهم الجدل الفلسفي، وهذا ما جعل سقراط من قبلهم يتخذ منهجاً في محاربة السفسطة اللغويّة والأوهام عند السفسطائيين، وهو المنهج الذي اعتمد على السخرية من أجل توليد المعرفة.
لذلك قال: (جوته) يوجد بين الفكرة والتجربة هواة سحيقة نحاول بكل قوانا نتخطاها عبثا، ومع ذلك نطمح بلا توانٍ إلى التغلب على هذه الفجوة، بفضل العقل والخيال والذكاء والايمان والعاطفة والوهم، وكذلك الحماقة عندما لا نجد أيَّ ملاذ آخر.
فمع ديكارت نجد اعتراضاً على منهج أرسطو ووصفه بأنّه عقيم، وعارضه بالعقل الرياضي وأكد بفضل منهاجه، أنه يستخدم عقله بكل شيء.
ويؤكد بوبر لذلك بقوله: إذا كان للفلسفة منهجاً فهو النقاش العقلي، إلا أنه ليس خاصاً بالفلسفة، بل هو كذلك منهاج للعلوم الطبيعيّة.
فالفلاسفة أحرار في أن يستعملوا أيَّ طريق يرونه نافذاً للحقيقة.
وعلى ذلك نجد تعدد المناهج الفلسفيّة فمنها المثالية، والعقلية، والحدسية، والحدسية، واللغوية.
فكل فيلسوف منهجه الخاص في الاستدلال والبرهان عن الحقيقة، وتعتمد مناهج الاستدلال على البرهان والاقناع، كما يجب علينا أن نفرّق بين مناهج التعلم والاكتشاف، ومناهج التفلسف والاستدلال، ومناهج التعليم والتبليغ، الاولى يدخل فيها التحليل اللغوي والرياضي، والحدس، والفرض بعكس الثانية تعتمد البرهنة والدلالة.
اي بمعنى كما يقول أفلاطون لا يكفي في أن نبلغ الحقيقة بل يجب أن نعرف كيف نبلغها ونوصلها للآخرين وهذه يجب أن يعتني بها الفيلسوف مستخدماً مهاراته وإبداعه كالفنان.
وهذا الذي جعل فييرآبند يرى في فلسفة العلم أن تقدم العلم والفكر قائم على الإبداع وليس اتباع المنهجيّة، ففي بعض الأحيان تستقي النظرية العلمية أساسها من الأسطورة أو الدين أو الخيالات وليس من العلم نفسه، لذا يعد الالتزام بالمنهج تقييداً يكون شبيه بالتزام بالدين، كما يشبه فييرآنبد بين العلم والجريمة المنظمة.
وهذا الذي أكده هيغل بقوله: بأنه لا توجد الفلسفة إلا إذا وجد حسّ التحرر.
وهذا الذي جعل فييرآبند يعتمد على أقوال نيتشه محطم الاصنام الذي يؤكد أن الفيلسوف لا منهج محدداً له سوى الوقوف ضد توجهات المجتمع، لأن الكثير من تلك التوجهات تعد مقدسة، وتملك سلطة الحكم على الآخرين.
ولذلك ليس للفلسفة منهجاً عاماً محدداً، حتى وإن كانت نظرتها شمولية وتتسم بالعموميّة للأشياء، لأن الالتزام مع الفلسفة يعد انحرافاً عن سعيها ووجودها الحقيقي، وتتمثل لنا بثوب الأيديولوجية، فالنظر في الفلسفة يحتاج التحرر ليس فقط التحرر من الانصياع للمجتمع، بل التحرر من المنهجية والنظرية والقانون والقواعد، لذلك من مميزات الفلسفة الصيرورة والتغيير والتحول، وأنه لا طريق لها سوى النقد وإعادة النظر في كل شيء يطرأ علينا، لهذا ترتبط الفلسفة بالإبداع، بعكس ما نجده من تفلسف في جامعتنا، إذ يرتبط بتاريخ الفلسفة كتاريخ وليس كفلسفة.
وعليه يجب التفرقة بين منهج التفلسف في التعليم، ومنهج الفلسفة كفكر. إذ إن الاول مقيد بسلطة المنهج، والثاني متحرر إبداعي.