ريسان الخزعلي
مهما تطوّرت وتعددت الأساليب الفنية في كتابة الرواية بفعل مؤثرات أملتها مناهج وتنظيرات تحاول أن تجعل من التغريب مقياساً معيارياً يُحدد النوع الأعلى للفن الروائي، وكأن هذا التغريب هو الحداثة والتجديد، يبقى (الواقع) هو الأُس والأساس في المعادلة الرياضيّة/ التكوينيّة للعمل الروائي؛ إذ إن هذا الواقع يكتنز كل ما هو سحري وحياتي ورمزي وتشكيلي، وكل ما هو صادم أيضاً.
إنَّ الابتعاد عن الواقع بتقاطعاته وتضادّاته سرديّاً، يجعل من هذا السرد دائرة مخيالية لا يثبت لها مركز، وسيُزاحم محيطها بالأفكار والاستطرادات الذهنية الذاهبة إلى البُعد اللامرئي من المواجهة الروائية. ورواية (منازل العطراني) للأديب متنوّع الاشتغالات الإبداعية جمال العتّابي أمسكت خيوط (لعبتها الواقعية/ الفنية) التي تشابكت مع أحداث لها شرخٌ في الواقع السياسي/ الحياتي والذاكرة العراقية. تلك هي أحداث الستينيات وما قبلها بقليل.
تقوم الرواية على كشف فكرة النضال الفردي البطولي المتبوع بالمشاركة التضامنيّة في هذا النضال؛ بدءاً من هروب المعلم/ السجين والتحاقه بالتظاهرة حال هروبه (وهذه واقعية سحرية أخرى!) إذا قلّما يحصل هكذا فعل في التجارب السياسية النضالية، وتلك هي علامة الذين ليسوا كسواهم. إنَّ (المنازل) التي مرَّ بها المناضل/ الهارب وما واجههُ من تعارضات بين الحياة والموت هو وأسرته، ما هي إلا منازل تطمح لأن يكون الواقع أنقى وأرقى وأبقى. وهنا لا أُريد أن أشرح تفاصيل أحداث الرواية، لأن هذا من عمل الرواية ذاتها، غير أنّ الإشارة إلى ملامحها الفنية هو الأكثر إيقاعاً وإنصاتاً:
1 - الإحاطة السردية الواعية، أي أن الروائي تمكّن من حركية الفعل الروائي: كيف تبدأ الرواية وكيف تنتهي..؟
2 - تعدد الأصوات، بمعنى: أن الروائي جعل الشخوص هم من يتحدّثون على الأعم وهذه (بولوفينية) منحت الرواية صفة السرد الشامل، رغم أن الروائي هو السارد العليم في كل الأحوال.
3 - واقعية الأحداث التي جاءت بها ذاكرة حيّة عاصرت تلك الأحداث، ولا أستبعد أنها أحداث واجهتها أسرة مؤلف الرواية، الأسرة المناضلة المعروفة وعلى رأسها (الأب/ المعلم) ..، كما أنَّ الإشارة إلى الفتى الذي ينشغل بالتخطيطات والرسومات، ما هي إلا تأكيد آخر وإشارة إلى المؤلف المعروف بهذا
الانشغال.
4 - الأوراق/ التي عُثر عليها، كانت رواية قصيرة داخل الرواية، لكنها في السياق الدلالي ذاته، ولم تُشكّل إلا البُعد الفني/ الجمالي الإضافي.
5 - وضوح الرواية: لغة، بناءً، مكانا، زمانا، شخوصا، أحداثا..، كل هذا – وبخاصة في بُعدي الزمان والمكان - جعلها طيّعةً للتلقّي والاِلتفات من جديد لمعاينة ما كان يحصل في الحياة السياسية العراقية من أجل الحرية الفكرية والوجود الحياتي الاختياري، إذ إنها تخاطرت ببعض من وثائقية إيحائية كاشفة وبتواشج مع سرديتها بعيداً عن الرمز والترميز.
6 - الرواية، عمل أول للمبدع جمال العتابي.. إلا أنها مقدمة تُشير إلى تكوين كامن في الذات، يُكمّل ويُضيف لما هو متحقق من جماليات تشكيلية ورؤى نقدية فنية وأدبية، مارسها ويمارسها العتابي. وفي المفتتح الأخير، لا بدَّ من التأكيد بأن رواية (منازل العطراني) كانت رواية واقعية اكتنزتها وأظهرتها ذاكرة حيّة.