ناجح المعموري
بقيت الأم الأولى في الثقافة الإغريقيّة إلى ما قبل العصر الهليني قائمة في شخصية الإلهة «حيا» الأم ـ الأرض. إلا أن هذه كمثيلاتها في الثقافات الذكرية الأخرى قد استمرت شخصية أسطورية بلا ظل ولا عبادة، بينما تقاسمت «ديمتر» و «أرتميس» و «أفروديت» الخصائص الطبيعية للأم القديمة، فكانت أرتميس إلهة الغاب والبراري والأرض البكر و»يميتر» إلهة الأرض المزروعة ودورة الطبيعة، وأفروديت إلهة التكاثر والحب والجنس.. ولعلنا واجدين في الإلهة أرتميس مدينة افسوس الإغريقية في آسيا الصغرى، صورة الأم الشرقية الكبرى. فأرتميس هنا لا تبدو كإلهة للطبيعة البكر، بل كأمٍّ زراعية كبرى تمثلها تماثيل افسوس في هيئة ممتلئة وقد تزاحم في صدرها عشرات الأثداء تماماً كالجرة الفخارية.
وأشار فراس السواح إلى أن الأم القمريّة قد صورت أحيانا في هيئة مثلثة، ويمثل الإلهة الإغريقية أرتميس ـ هيقات بثلاثة رؤوس يلتفت أولها إلى اليمين دلالة القمر المتزايد، والثاني نحو الامام دلالة القمر التام والثالث إلى اليسار دلالة القمر المتناقض، ويتعلق بيدها اليسرى كلب الجحيم الضاري واثبا على قائمتيه الخلفيتين.
تتضح وظائف الأم الكبرى الإغريقية من خلال أرتميس وحصراً على عصر الاستقرار قرب حقول الحبوب البرية، حيث كان الإنسان يحصد ما تجود به الطبيعة من دون أن يعرف كيف يعيد انتاجه كما قال السواح. وواضح أن الثقافة الإغريقية منحت أرتميس دوراً حياتياً مهماً عبر علاقتها الزراعية فتكلفت بها، وفي هذا الدور أعلاء لمكانتها. ولولا قتلها للحوامل أحياناً لحظة الولادة لكانت واحدة من أهم الإلوهات المؤنثة التي عرفتها بلدان الشرق القديم، لأنَّ مجموع وظائفها لم تتوفر لغيرها من الإلوهات الأخرى.
أعتقد أن قتل الحوامل لم يكن قصدياً، وإنما هو اعتباطي لأن المرأة الحامل تلد أحيانا وتموت في أحيان أخرى، ولأن أرتميس معنية بذلك، حصل اقتران بينها وبين القتل كوظيفة ولأنها مهتمة بالأمومة فهي مسؤولة عن كل ما يرافق الخصوبة والولادة وكما قال الباحث هـ . ج. روز في كتابه الديانة اليونانية القديمة: لا وجود للشك في أن أرتميس كانت إلهة أما وهي ذات ولاية على كل البراري وما فيها وما يرشح عنها.
هذا الرأي هو أن أرتميس مسؤولة عن كل ما هو حي، تظهر للوجود. إنّها ربّة للانبعاث والخصب النباتي والحيواني ومشرفة عليه، وذكر السواح قائلاً: كانت أرتميس في الثقافة اليونانية ربّة الغابات والبحيرات والنباتات البرية والحيوانات الطليقة وربّة الصيد وتمثلها الأعمال الفنية على هيئة امرأة شابة رشيقة القوام، خفيفة الحركة، قاسية الملامح، لا تعرف الابتسام رغم جمالها الفائق، ترتدي التنورة القصيرة التي تكشف عن ركبتيها وتمسك بيدها القوس وتضع على كتفها جعبة السهام وفي قدميها صندل الصيادين، ترافقها في حلها وترحالها كلابها المتوحشة، ويثب عن يمينها ويسارها الأيائل والغزلان وضع هذا التوصيف أرتميس في مكانة إلهة أم كبرى وحازت أهم عناصرها الثقافية والدينية وأكد ضمناً رأي الباحث هـ .ج روز من أنها كانت أما في الأصل، لأن الوظائف التي قامت بها وهي متنوعة، لم تكن قبلاً من خصائص واحدة من الإلوهات في الشرق.. مع هذا التعدد والتباين وهي تتمتع بعلاقة مباشرة مع الخصوبة، فلا بدَّ من الانفتاح حول مجالاتها الإدارية وهيمنتها المطلقة وعلى سبيل المثال الغابة كلها وما فيها من حيوانات متوحشة وان لم تذكرها الأسطورة واكتفت بالإشارة اليها بالطليقة وكذلك الطيور والنباتات وأشجار الفاكهة أيضا هي من تمظهرات أرتميس، لذا لم تختر لها شجرة فاكهة أو نوعاً من الثمار مثالي ما كان للالوهات المؤنثة مثل سيبيل/ وأفروديت/ وأثنيا/ وديميتر، فضلا عن البحيرات وما فيها من تعدد وتنوع، كما أن البحيرات ـ وحدهاـ تفضي نحو دلالة مباشرة للخصوبة وهي فضاء امومي، يحصل فيها اتصال وطرح بيوض/ بذور الخصب. المكان الخفيض والمرتفع لها، الخصوبة وماء الحياة من خصائصها الثقافية والدينية، وينفتح التخيّل نحو تنوعات الخصوبة المتوفرة في الغابات/ والبحيرات والنباتات البرية والحيوانات الوحشية إلى أنها - أرتميس ـ إلهة ذات سيادة على الحياة وحازت ما لم يكن يغيرها، هذا إذا علمنا بأنها لم تكن زوجة لإله كبير ومنجبة منه، هذا لم يحصل وحافظت على جسدها وظلت عذريتها مصونة للأبد، بمعنى استطاعت مقاومة حاجة الجسد واشتعال الرغبة فيه وكبت مشاعر الأنثى وحنينها للآخر، الذي تجد نفسها كاملة به ومن خلاله. كل الذي قلناه، يثير أسئلة مرتبطة بخصائصها التي تبدو متعاكسة مع ما في عناصرها، فهي شابة رشيقة وجميلة خفيفة الحركة، وهنا برزت مميزات الأيائل والغزلان والأرانب، مثالي ما هي قاسية ولها دور خصوبي غير مباشر، وهي صائنة محترسة، منتبه إلى حدود فضاءات مرتبطة بها مثل الغابات/ البحيرات وأمام هذه المسؤوليات، تبدو أرتميس مصدّاً قوياً، ولا بد عليها أن تكون متجهمة دائماً، متوترة الملامح، لا تعرف الابتسام رغم جمالها الفائق، ولأنها حذرة/ متوجسة تظهر دائماً -هذا ما طلبته من زيوس- بملابس قصيرة، فوق الركبتين، كي تساعدها على الحركة والطفر والقفز، وهي حاملة قوسها وجعبة سهامها الفضية هذا ما أفضت به الأعمال الفنية التي ظهرت فيها شبيهة للإلهة عشتار، حاملة قوساً وسهماً والفرق بينهما ارتداء عشتار لثوب طويل، ولا غرابة من التشابه فعشتار هي الأصل المبكر لكل الإلوهات في الشرق، وهما معاً من جغرافية واحدة. لهذا أشارت الدراسات الميثولوجية إلى أن سيبيل/ وأفروديت/ ويميتر/ واثينا/ وفينوس متشربة بما يمكن معرفته من شخصية الإلهة أنانا/ عشتار.