الفقر.. قراءة ثقافيَّة اقتصاديَّة سياسيَّة
البصرة: صفاء ذياب
قدمت مجموعة من الباحثين العراقيين والعرب مجموعة أسئلة بُنِيَ في ضوئها كتابهم الجماعي الصادر عن دار سطور في بغداد، بعنوان (الفقر.. مقاربات نظريَّة ونماذج تطبيقيَّة من العراق والعالم)، منها: لماذا يحق للمالكين أن يملكوا؟، ولماذا على الفاقدين أن يفقدوا؟، هل ثمة تفسير أخلاقي أو علمي يبرّر هذا الامتلاك وهذا الفقدان اللذين رافقا الحضارة منذ بداياتها؟، وهل الفقر مؤشر على سوء تنظيم اجتماعي فحسب؟، أو أنه معضلة أخلاقية أيضاً تتحدى قوانين الطبيعة والمجتمع؟.
وكيف يمكن تقديم مقاربات فكرية مستقرّة لمفهومٍ متحرّك له عدد لا يحصى من التعريفات المتباينة، كمّياً ونوعياً؟، وهل أصبح الفقر موضوعاً شائعاً ومألوفاً حدَّ بطلان الاهتمام العلمي المتجدّد به؟، أو ما يزال موضوعاً يستثير التحفيز الذهني والدهشة المعرفية والمساءلة الأخلاقية؟، وهل يمكن حقَّاً البحث في الفقر والإفقار من دون البحث في الغنى والامتلاك؟.
وفي هذا الشأن، يطرح الدكتور فارس كمال نظمي، محرّر الكتاب، أنه اليوم، يعيش 10 بالمئة، من سكّان العالم بأقل من 1,90 دولار في اليوم الواحد، و24 بالمئة منهم يعيشون بأقل من 3,20 دولارات في اليوم الواحد، و44 بالمئة يعيشون بأقل من 5,5 دولار في اليوم الواحد. ونصف هؤلاء من الأطفال، وغالبيتهم من النساء. أمَّا في العراق فتتراوح نسب الفقر الحالية بين 30 بالمئة إلى 40 بالمئة حسب إحصائيات محلّيّة ودوليّة متعدّدة. وفي الوقت نفسه أمام هذه النسب الكارثية للفقر، نجد أن ما يناهز ثلث الطعام المنتج للاستهلاك الآدمي في العالم يتمُّ هدره كلَّ عام (أي ما يعادل نحو 1,30 مليار طن)، بسبب فساد الطعام أو رميه في مكبّات النفايات، في مفارقة تراجيدية صادمة.
هذه الأرقام جميعاً تخصُّ عتباتٍ اقتصادية فقط للفقر تتحدّد بالدخل المعيشي، ولكنَّ الفقر أصبح مفهوماً شاملاً مركّباً متعدّد الأبعاد، متنوّع التعريفات، يتّصل بتدهور كلَّ نواحي الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والصحيّة والتعليميّة والثقافيّة والنفسيّة، بما فيها الحرمان المنظّم من الحاجات الأساسية، ومن حقِّ الكرامة والكبرياء البشري، ومن حقِّ الاستمتاع بالحياة، ومن حقِّ الاختيار الحر للفرص وتحقيق الإمكانيات، ومن حقِّ المشاركة الفاعلة في المجتمع، والحرمان من الحرية السياسيّة ومن حقِّ الفرد أن يكون عزيزاً مبجّلاً في نظر المجتمع.
ويقدّم الكتاب؛ بحسب نظمي، مقاربتين، الأولى أن الفقر ظاهرة غير محبّذة، ولكنَّها مبرّرة فكرياً بسبب الفروق الفردية “الحتمية” في القدرات العقلية والخصائص الانفعالية والصفات الوراثية بين الناس، التي تستدعي بالضرورة فروقاً في إمكانية الوصول إلى الثروات والحقوق.
فالفقر هنا- كما الحرب والعنف والموت- تعبير “طبيعي” عن الوجود البشري لا يمكن الهروب منه إلَّا بحدود معيّنة. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه بتيّار “تطبيع الفقر”، المرتكز إلى تزييف الوعي وهيمنة الأيديولوجيا المبررة لاستمرار التفاوت واللامساواة.
أمَّا المقاربة الثانية، فتنتقد الفردانيّة التبريريّة، وتذهب إلى اتهام البنى المؤسّساتية القائمة على الاحتكار والاستئثار والتسلطية واللاعقلانية والأنانية التملكية، بأنَّها المسؤولة عن تثبيت ظاهرة الفقر على مدى التاريخ البشري. وهي بذلك تفنّد أيَّ تبرير أكاديمي يسعى لتطبيع الفقر في المجتمعات، بل تذهب إلى أن الفقر تعبير عن فشل وإخفاق- غير حتميين- في تنظيم الحياة البشرية، ويمكن مكافحته على نحو مؤكّد إذا ما تضافرت عوامل السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والأخلاق لإعادة هيكلة البنى المؤسساتية في البلد الواحد أو بين بلدان العالم عامة. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه بالتيار الناقد للفقر.مشيراً إلى أن الباحثين سعوا إلى مقاربة هذه الاحتمالات النظرية والتطبيقية الشائكة بشأن ظاهرة الفقر، في نطاقيها المحلّي والعالمي، من خلال المؤتمر العلمي الذي عقدته الجمعية العراقية لعلم النفس السياسي في بغداد، بالتعاون مع “أكاديمية بغداد للعلوم الإنسانية”.
فقد استهدف المؤتمر إنجازَ تقصٍّ تنظيري- تطبيقي لهذه الظاهرة المتعدّدة الأبعاد، عبر تفكيك بعض بناها التكوينيّة، للكشف عن صلاتها الجدليّة بعواملها النشوئية من جهة، وبمخرجاتها الاجتماعية من جهة أخرى.
ضمَّ الكتاب عشر دراسات لكتّاب عراقيين وعرب، وهي: (علم النفس الاجتماعي للفقر: مدخل إلى تنظيراته ومناهجه) لفارس كمال نظمي، (الفقر في منظورَي الشيوعية الثورية والشيوعية التأويلية) لعلي حاكم صالح، (حطبُ الثورات: الفقراء والمهمشون في الثورة التونسية) لمولدي الأحمر، (تحليل الفقر في العراق منذ 2003) لبسام يوسف، (الفقر والمتغيرات الديموغرافية في العراق: إرثُ الصراعات ومخاضُ السياسات) لعدنان ياسين مصطفى، (المحددات السياسية للحد من الفقر في العراق: قراءة في معوقات تنفيذ استراتيجية التخفيف من الفقر 2018 – 2022) لحسين أحمد السرحان، (ظاهرة الفقر وتأثيرها في الأمن الإنساني العراقي) للطيف كامل كليوي، (التمكين القانوني للفقراء في العراق) لهادي عزيز علي، (تفسيرات الفقر في العراق: البنية والمتغيرات التنبؤية) للؤي خزعل جبر، وأخيراً (تمثلات خطاب الفقر في ثلاثية عبد الله صخي (خلف السدة، دروب الفقدان، اللاجئ العراقي) لمحمد عبد الحسين هويدي.
وفي دراسته (الفقر في منظورَي الشيوعية الثورية والشيوعية التأويلية) يقدّم الدكتور علي حاكم صالح رأياً يشير فيه إلى أن للفقر تفسيرات جغرافية، وثقافية، وسياسية، ولذلك، ثمَّة صعوبات في
تحديده.
يحدث الفقر في سياقات اجتماعية متغيّرة تاريخياً، ما يقتضي إعادة تأويل مستمرة. فما يعدّ فقراً يعتمد جزئياً في الأقل، كما يرى بعضهم، على الأعراف الشائعة في مجتمع معيّن. ويُميَّز عادةً بين الفقر المطلق الذي يعني العيش من دون حدٍّ الكفاف، والفقر النسبي الذي يشير إلى العجز عن تلبية الاحتياجات الأساسية لحياة لائقة. ويعتمد تعريف الحياة اللائقة على المعايير المجتمعية السائدة في مجتمع معين. وتختلف الآراء حول المعيار المعتمد لقياس الفقر؛ فثمّة من يرى ضعفاً في اعتماد الدخل القومي مقياساً، وما يزال المقياس النقدي يمثّل الأكثر شيوعاً. وطبقاً له يكون المرء فقيراً إذا كان دخلُه أو نفقاتُه الاستهلاكية من دون حدٍّ معيّن، يمكن أن يعيّنه رقمٌ معين أو نسبة تقوم على أساس الازدهار الاقتصادي ضمن سياق اجتماعي. وغالباً ما يُطبق هذا المعيار ضمن النطاق الوطني. ويرى “أمارتيا صِن” معياراً آخر هو الحرمان من القدرة، أمَّا الدخل فهو مهمٌ كأداة فقط.على الرغم من التطوّر الهائل الذي عرفته الإنسانيّة، ما يزال الفقر المنتشر اليوم في أصقاع واسعة من العالم يشكّل ظاهرةً تبدو أنّها تعاند هذا التطوّر نفسه، وتلك مفارقة حقيقية، أم لعلَّ التطوّر المادي، الرأسمالي، هو نفسه يحتّم الفقر؟ «إنَّ معظم ما يشهده العالم في الوقت الراهن من حالة اللامساواة وعدم التكافؤ قد ظهر منذ أواخر القرن الثامن عشر، وبالتحديد في أعقاب الثورة الصناعية». فبظهور عصر الصناعة ونشوء الرأسمالية، وانتشارها تَشَكَّلَ نظامٌ عالمي جديد، يفسّر ظواهر صارت ذات بُعد عالمي من بينها الفقر. كان الفقرُ قبل بزوغ الرأسمالية ظاهرةً محليةً إلى حدٍّ كبير، أسبابه محلية، ولكن بعد ظهور الاقتصاد الرأسمالي الذي بطبيعته يتجاوز الحدود القومية، بات من المتعذر الاكتفاء بأسباب محلية لتفسير الفقر.
أن الفقرَ ليس نتاج الصراع الاجتماعي السياسي المحلي فقط، بل هو أيضاً نتاج الصراع الدولي. كان اقتصاديو القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لا سيما “آدم سميث” و”ريكاردو” و”مالثيوس”، وكذلك “ماركس” وأتباعه، قد تفحّصوا مشكلةَ الفقر ضمن دراساتهم للاقتصاد السياسي، فإمّا أنهم رأوه ثمناً ضرورياً للتقدم الاجتماعي، وإمّا أنه دليل على عجز النظام وعدم فاعليته. لذلك ما يزال الفقر يمثل مشكلةً تاريخيّةً، وموضوعاً للسجال حول درجة ومدى تأصله في تطور النظام الرأسمالي.
ويخلص صالح إلى أن رأسمالية القرن التاسع عشر ليست التي عاش “ماركس” في كنفها هي نفسها اليوم، وظاهرة العولمة، التي رآها “ماركس” بعين بصيرته النافذة، صارت واقعاً يغطي المعمورة بأسرها، والتعثَّر التاريخي الذي عانته الفكرة الشيوعية نفسها نتيجة التعاند التاريخي بين النظرية والممارسة كما تجسّد في تجارب الأنظمة السياسية الشيوعية في القرن العشرين، وحركات التحرّر من الاستعمار، والاندماج المطرد بين بني البشر، والتطورات الهائلة في وسائل الاتصال والتواصل؛ كل هذا وربما غيره، حتّم سرديةً شيوعيةً جديدةً تضع كل هذه العوامل في اعتبارها من حيث مبانيها الفكريَّة والأخلاقيَّة.