مع كلّ صاروخ يسقط في غزة

ثقافة 2023/10/25
...

أحمد عبد الحسين
لا مفرّ. الحدث الكبير يضغط على أرواحنا بقوّة. ومهما حاولنا التلهّي عنه بالعودة إلى اهتماماتنا الأليفة من قراءة وكتابة فإنّ صرخات أطفال غزة تملأ مسامعنا والغبار والدم اللذان يعلوان وجوه الصغار الفلسطينيين القتلى يلطخان أرواحنا. ومنذ يومها الأول نحن أسرى هذه الحرب التي لم نشترك فيها إلا عبر الشاشات.

في هذه المذبحة يموت حقاً وصدقاً مَنْ أدمن النظر إلى العالم من نافذة أخلاقية ومَنْ وثق بحتميّة تقدّم الكرامة الإنسانية على كل معطى، لأنه إذا كانت للسياسيّ مسارب تتعلق بالربح والخسارة وحساب النتائج المادية والرمزية، فإنّ للمثقف منفذاً واحداً لصرف هذه الأحداث المؤسية هو هذا المنفذ المتعلّق بالقيم التي استقاها عادة مما يقرأ والتي هي أعظم نتاجات الإنسان وأنفس مقتنياته.

وهذه القيم تتصدّع. مع كل صاروخ يسقط على مستشفى أو مدرسة أو مسجد أو كنيسة تحدث ثلمة كبيرة في يقين المثقف العربيّ بالقيم المؤسسة له ولثقافته لأنّ قيم الحداثة ذات منشأ غربيّ: لوائح حقوق الإنسان ودراسات الكرامة والحريّات. وقد نافح المثقف العربيّ مطوّلاً عن هذه القيم أمام أعدائها التقليديين “من الإسلاميين خصوصاً” الذين أشاعوا في أدبياتهم التقليدية أن شطراً من مثقفي العرب القائلين بالتحديث هم طابور خامس في العائلة العربية ـ المسلمة السعيدة.

أقرأ هذه الأيام لكثيرين مقالات هي تعابير عن صدمتهم بهشاشة القيم العليا التي آمنوا بها سواداً على بياض، فظهر أنها غير شغالةٍ حتى في منبتها الأصليّ، وبدا كما لو أنّ الغرب الذي أنتجها قد انسلخ منها في ارتداد إلى قيم بدئيّة ارتكاسية سبقت زمن الحداثة بكثير.

إذا كان صوت المثقف العربيّ خافتاً أمام شيوع وتغوّل عناصر ما قبل الدولة في بلداننا فهو اليوم أخفت مع تهاوي صروح يقينه بقيم الغرب، بل أن أصوات مثقفي الغرب أنفسهم لا تكاد تُسمع في هذه الأرجاء التي يجول فيها الرعب. 

يصلح هذا الحدث المأسويّ لمحاكمة هذه القيم ولمعرفة مدى مناسبتها للأرض التي نحيا فيها، ففي النهاية، في آخر الأمر، من المناسب اليوم أن نفهم بأنّ تاريخ قيمة ما ـ أية قيمة ـ هو ذاته تاريخ مستخدميها ومستثمريها. ومستثمرو هذه القيم اليوم يصرفونها في موارد تحرّفها بل تمسخها وتجعلها إعداداً ثانوياً في حربٍ قائمة على كلّ ما هو بدائيّ من أساطير وخرافات ونوازع بدائيةٍ تتعلّق بسيادة عِرق أو اصطفاء سلالة أو أحقية دين.

لمْ تُستنبت الحداثة في أرضنا، ليس بسبب السموم التي يلقيها رجال بدائيون عندنا، بل وبشكل تؤكده الأحداث اليوم، بسبب أنّ هذه الحداثة تنطوي على جوهر هشّ للغاية، وأنّ من استولى عليها وعلى ترويج خطابها هناك، يوردها في موارد تجعلها ضداً لنفسها.

قيم الحداثة عندنا تتهاوى. وليس هذا خبراً سيئاً لمن يريد أن يرى العالم من نافذة جديدة.