لِمَ لا نحافظ على صورة من نحب؟

ثقافة 2023/10/25
...

البصرة: صفاء ذياب



 إنَّنا نعيش حياتنا كلّها في سبيل الإبقاء على صورتنا ناصعةً وجميلة في عيون الآخرين، عيون أطفالنا التي لا تريد أن تلتقط أيّة صورة تسيء لنا، عيون أصدقائنا الذين يريدون أن نحافظ على العلاقة التي بيننا من خلال تصورات كانت السبب في تلك العلاقة منذ بداياتها، عيون جيراننا، وهو يحيوننا كلَّ يوم، وكأنَّنا أهل آخرون لهم... بل وحتّى عيون الذين لا نعرفهم، لنرسم صورةً لنا، تبقى جميلة في أذهان الآخرين.
هذا ما نحاول أن نبقيه حتَّى بعد مرضنا أو وفاتنا، غير أنَّ ما حدث مع انتشار السيلفي أولاً، والتصوير المجاني ونشر الصور على وسائل التواصل الاجتماعي، نقل مفهوم الصورة؛ بمعناها المجازي، إلى أبعاد أخرى، فبدأ الأهل والأصدقاء ينشرون صورنا ونحن على فراش المرض، وقد تغيّر شكلنا، وبدا الضعف علينا، حتَّى كأنّهم يستجدون الدعاء أو التعاطف، الذي كنّا نرفض أن نظهره للآخرين.. إلى أن وصل الأمر ببعض الناس، ومنهم مثقفون وأدباء، إلى التقاط صور سيلفي مع الأب أو الأخ أو الابن أو الصديق، وهو بقايا جسد لا أكثر..

ما الذي حدث لثقافتنا في مفهوم الصورة، وهل يمكن أن نسمّي هذا انتهاكاً لخصوصياتنا التي تسعى للحفاظ على صورتنا جميلة في عيون الآخرين؟ وكيف تقرأ هذه الظاهرة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي؟

فم الذكريات

يقول الشاعر عباس ريسان : إنّه إذا كان الأمرُ يتعلّقُ بالأهل، فهذا الأمرُ مفروغٌ منه، وتحصيل حاصل للعاطفة الجيّاشة التي يحملها الأبناءُ تجاه أسرهم، والأغلب الأعم منَّا يفعلُ ذلك مع من نحب لاسيّما لحظة مرور الآخر بحالةٍ صحّية أو أزمةٍ وخذلان، ومن خلال ذلك كلّه نحاول ما استطعنا أن نتفاعل مع الانكسارات التي يمرُّ بها، كأنَّنا نريد أن نخبره بأنَّنا نشعرُ به ونعيش معه آلامه كلّها، نحن جزء لا يتجزّأ من الصورة، تلك الصورة التي هي لحظة الخيبة بالنسبةِ له، ولنا هي اعترافٌ مضمرٌ بأنَّ النهايةَ حتميةٌ ولابدَّ منها، هي لحظات من الدهشةِ والذهولِ، والتساؤل: كيف عبرنا كلّ تلك الأيام والسنين من خلال صورة، وهل تصفح الذكريات أمسى بديلاً عن ملامسةِ الأجسادِ؟!.

ومن جانب آخر، أولئك الذين تربطنا معهم علاقات صداقة، يكون الأمر فيه لحظوي، يتلاشى ويضمحل بمرور الوقت، وربَّما يصبح طيّ النسيان، وذلك لتغلّب الأمر الأول المختص بالأهل عليه، كلّما اتسعت مساحة الأهل تقلَّصت مساحة الآخرين، ويقيناً كلّ شيءٍ سيكون مائدة عامرة لفمِ الذكريات.

الصورة الجمالية للمنكسر، وهو بطبيعة الحال مسلوب الإرادة، لم يعد يكترثُ لتصفيفِ شعرهِ أو الاهتمام بهندامهِ أو وقوفه شامخاً مستقيماً، كما كان يفعل ذلك حين كان بأوجّه، المهم لديه الآن أن يُشعرَ نفسه ويوصل رسالة إلى الآخرين بأنَّه ما زال يرى الآخرين ويتفاعل معهم مثلما هم يفعلون ذلك معه.

المصوِّر هو عين الغيبِ التي تسجّلُ هبوط أعمارنا، أمَّا نحن (الصورة) بابتساماتنا لا نصمدُ طويلاً إذا ما أريقَ كوبٌ من الماءِ علينا.

تجاوز على الخصوصيات

ويبين الدكتور سعد التميمي أنَّه مع ما وصلت إليه ثورة الاتصال وسرعته والاندفاع السريع للتواجد في وسائل التواصل الاجتماعي يندفع بعض الأشخاص إلى نشر صور لأناس تربطهم بهم رابطة قرابة أو صداقة يكن لهم المحبة والاعتزاز رغبة منه للتفاعل من الأصدقاء، لكن للأسف قد يظهر هؤلاء الاشخاص في صور غير مناسبة نظراً للظرف الصحي الذي هو فيه، و”أذكر أنَّني والصديق الشاعر الدكتور رعد السيفي كنّا قد رافقنا أستاذنا المرحوم د.محسن أطيمش في مدينة الطب عند عودته من اليمن عام 1994 في أيامه الأخيرة ومرضه الذي توفّى فيه ولم نجرؤ على تصويره في تلك الحال فكيف يمكن لنا أن ننشر صوره؟”، إنَّها تجاوز على خصوصياته، ومن يقوم بهذا العمل يتصرف بدون موافقته ويثلم الصورة التي نحلّها لهؤلاء، لذا يمكن أن نختار لهم صورة وهم في كامل وعيهم عندها ستكون المبادرة شرعية وتعكس قبولهم.

 انحسار الوعي

وينقل الشاعر قاسم محمد علي إسماعيل قول الشاعر ناظم حكمت (التمتع بالجمال ثواب). مضيفاً المسألة الأساسية هنا هي كيف نجدُ الجمال ونستشعرهُ ونُسهمُ فيه أو نخلقهُ..؟ إنَّ التغييرات الكبيرة التي شهدها مجتمعنا العراقي والظروف شديدة التباين التي عانى منها لسنوات طويلة وانحسار الحالة الثقافية الخلاقة طوال العقود الماضية وبروز موضوعات اجتماعية يرى فيها البعض أهمية كبيرة ويتم الترويج لها ويضعها في المقدمة على اعتبار أنَّ مثل هذه المواضيع ستجد صدى إيجابياً عند الآخرين هو الذي جعل من هذه الظاهرة تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي من خلال نشر الصور المؤلمة عن أشخاص في أوضاع إنسانية حرجة ومتعبة.

ويضيف: الوعي بصوره المتعددة الثقافية والاجتماعية والسياسية هو الذي يجب أن يقود سلوكيات المجتمع نحو الأشياء التي لها جدوى وثمار للآخرين، ولكنَّ انحساره فضلاً عن النشر في وسائل التواصل الاجتماعي وعدم وجود رقابة عليها سهّل كثيراً لحدوث مثل هذه الظواهر الدخيلة على مجتمعنا. إنَّ ضعف الذائقة الفردية والمجتمعية بمكامن الجمال وتلمّسه أدّى إلى (فوضى الحواس) فيتصوّر مثل هؤلاء أنَّ ما يقومون به صحيح لعدم معرفتهم بمعادلة الخطأ والصواب.

إيموجي الشهرة

وبحسب المترجم نبيل حميد طه فقد مهّدت وسائل التواصل الاجتماعـــــــــــــــي؛ والفيســـبوك تحديداً، في العراق لشيوع ظواهر طارئة على العرف الاجتماعي السائد قبل دخول هذه المنصّات حيّز حياتنا الشخصية، ومنها وللأسف الشديد التقاط الصور أو الفيديوات القصيرة مع أناس يرزحون تحت وطأة المرض، بل يتعدّى الأمر حدود الشرع في ظاهرة بشعة تتنافى مع حرمة الميّت، وهي نشر صور ومقاطع فيديو للمتوفّى على دكة المغتسل!، فضلاً عن تصوير حضور المآتم للمتوفين مع أقرباء المتوفّى أو مع الحاضرين من الشخصيات في تلك المجالس في سلوك يقلّل من هيبة نار قلوب أهل الفقيد المكلومة بفقده، وكأن مجلس العزاء مكان مناسب لصورة قد تحصد عدد لا بأس به من إيموجي (أحزنني). دوافع هذه الظاهرة قد تعزى للهوس الذي أصيب به الكثير ممّن يستخدمون هذه المنصات، هي الراحة والشعور بنوع من الأهمّية وهم يحصدون أكثر عدد من (أحزنني) ويزداد سقف طموحهم بوجود تفاعل مع المنشور بالتعليقات والرد عليها ليطمئن إلى أنَّه صاحب منشور تفاعل معه المتابعون له، وبواقع حال فرضته علينا هذه الوسائل أنَّ هناك الكثير من هؤلاء قد ساندهم الحظ في النشر فوجدوا لهم مكانة خارج العالم الافتراضي، وعليه يمكن أن نُجمل ما ذكرناه بكلمة واحدة هي (الطشّة) التي هي بحدِّ ذاتها كلمة جديدة دخلت علينا لوصف جمهور منصّات التواصل الاجتماعي الباحث عنها بأيّة وسيلة حتَّى وإن ناقضت التصرّف الإنساني والعرف الاجتماعي.

 تباهٍ بائس

ويرى الصحفي عامر حسن، أنَّ هناك اختلافاً في النوايا بين الاستعراض والاستعطاف وطلب الدعاء للمريض والرحمة والمغفرة للمتوفّى، المرحوم عندما كان مريضاً لسنوات لا أحد يزوره ولا أحد يساعده، فالمحتاج الذي كان لا يستطيع إجراء عملية جراحية- على سبيل المثال- تصرف الملايين على مراسيم الفاتحة والطعام بعد وفاته، ويتسابق المقرّبون على نشر البوستات والصور القديمة التي تجمعهم بالمتوفى

أمّا إذا كان المرحوم من المشاهير ومن الشخصيات المعروفة فينشرون الصور معه على الرغم أنَّ أكثرهم لا يعرفونه وبإمكان أي شخص التقاط صورة معه متظاهراً بأنَّه صديق المرحوم المُقرب، تباهياً أو لسدِّ الشعور بالنقص، بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك في تصوير حضورهم لمجالس الفاتحة في القاعات والمساجد وتصوير أنفسهم على أنّهم متأثرون، وهناك من يصور الذبائح التي تُنحر لإعداد ولائم الطعام التي تقام ببذخ وإسراف، وتصوير الشخصيات السياسية والحكومية التي تحضر لمجلس الفاتحة!

تجسّد المحبة

ويؤكد الشاعر عادل الياسري أنَّ هذه الظاهرة مردّها لعاملين أساسيين، أولّهما الانطلاق من عاطفة الحبّ وتجذّرها في كوامن النفوس وخاصة عندنا نحن الشرقيين الذين عرفنا بفيض عواطفنا وسيادتها على السلوك عند الكثيرين منا. فقد تعوّدنا أن ننظر إلى من نحب بقدّسية خاصة لا يحظى بها الآخر، جاعلين منه فوق المدنّسات للنفس البشرية والخطأ في السلوك.

أمّا الجانب الآخر، فيمكن أن يردّ إلى الرغبة في تقليد الآخر، واقتفائه في الأفعال، وهذا يتبدّى بشكل جليّ في النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، فحين أراك تنشر شيئاً ما أستحسنه، فإنّني أسارع إلى مضاهاتك والتماهي مع ما فعلت، فأسارع إلى تقليدك في النشر لسببين أساسيين يتمثّلان في الرغبة الداخلية بالتقليد للآخر، ولإرضاء الذي نحبّ والتباهي بحبّنا له الذي يدفعنا إلى تجسيده من خلال التقاط (السيلفي) معه ونشره، أو البحث في محفوظاتنا عن صورة تجسّد ذلك الحب.

الحياة قبل الصور

ويختم الكاتب سلمان عبد مهوس حديثنا بأنّه برزت في الآونة الأخيرة بشكل لافت نشر بعض مقاطع الفيديو وصور للكثير من الفنانين والأدباء والرياضيين والأقرباء ممّن يحتلّون مكانة مهمّة في حياة ونفوس الناس سواء في المجتمع أو الأبناء والأصدقاء، وبالرغم من حسن النوايا لهذه المبادرات التي يقوم بها هؤلاء الأفراد.

ولكي تبقى العلاقة بمن نحب نابضة بالحياة والكثير من الاهتمام لابدَّ أن يكون هنالك درجة كبيرة من الاعتناء والتفاهم والانسجام لتغذية هذا الحب، وأن يكون التعبير عن هذا الحب والاعتراف لهم بالفضل والأهمية دائماً، لا أن يأتي في أوقات متأخرة أو في ساعاتهم الأخيرة وهم ينازعون المرض أو على حافة التوديع، ونقوم بنشر صورهم فقط.

مضيفاً: والأولى أن نكون جنبهم في الأوقات العصيبة التي يحتاجون فيها المساعدة، حتى لا يشعروا بالإهمال وعدم الاهتمام والتنصّل عنهم. ويأتي الاهتمام والرعاية بهم، في صور كثيرة ومهمة في تقديم كلّ أشكال الدعم والمتابعة لشؤونهم الحياتية والصحية والاجتماعية، وفي المبادرة أو تقديم الهدايا البسيطة لهم، لتضفي مزيداً من الاحترام وتؤكّد المشاعر نحوهم وتنميها بشكل جميل.