جورج أورويل يقتدي بأمين الريحاني

ثقافة 2023/10/25
...

د. نادية هناوي 


ليس السرد غير الواقعي هو الخيال فوق الطبيعي، لسبب بسيط هو أنه لا أصل واقعياً لما يتم سرده. وهذا ليس بالشيء الجديد على سردنا العربي، فقد استمد تقاليده وشكّل أعرافه من الحكاية الخرافية التي ابتكرها الإنسان الأول ابتكارا لذاتها وليس ترميزاً لشيء ما أو فلسفة له. 

وما يميز السرد في لا واقعيته عن السرد في استعاريته، هو أن الوهم الذهني أو الإيهام العجائبي ليس لغاية يسعى إليها كاتب السرد غير الواقعي، وإنما الواقعية هي غايته. وما جعل الحيوان ناطقا، وقد أسندت إليه أدوار البطولة، سوى توكيد لهذه الغاية من جهة، وتدليل من جهة أخرى على التمسك بتقاليد السرد العربي القديم. وإذا كان أمين الريحاني متقدماً مجايليه في توظيف السرد غير الواقعي داخل الرواية التاريخية، فإنه متقدم أيضاً في توظيف الفواعل السردية غير الآدمية في روايته الاجتماعية المعنونة (المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية) وشخصياتها كلها حيوانية. ونشرت هذه الرواية عام 1903 وهو العام الذي ولد فيه الكاتب جورج أورويل  George Orwell(1903 ــ 1950)، وليس ببعيد أن يكون تأثره برواية أمين الريحاني (1876 ــــ 1940 ) هو الذي ألهمه كتابة رواية ( مزرعة الحيوان Animal Farm) ونشرت عام 1945، واستوحى فيها أجواء رواية الريحاني أحداثا وشخصيات، لكنه جعل الخنزير بطلا بدلا من الحصان. هذا إذا علمنا أن الريحاني كان يكتب باللغة الإنجليزية وكان كاتبا ورسام كاريكاتير وفنانا معروفا في الأوساط الأوروبية والغربية. ولا نرى غرابة في أن يخفي جروج أورويل تأثره بأمين الريحاني، فلقد أخفى كتّاب ومفكرون غربيون كثيرون تأثرهم بالتراث العربي القديم بدءا من العصور الوسطى ومرورا بعصر النهضة وبسرديات عصر النهضة الأدبية وما بعدها. 

وتظهر غائية الريحاني جلية من خلال المقدمة التي استهل بها عمله، وذكر فيها جملة شروط، ينبغي للقارئ أن يأخذها بالاعتبار قبل قراءة الرواية، فلا يصدق أو يكذب وإنما عليه أن يتفكر كي يقيس ويحكم ويقيم. والسارد في هذه الرواية هو عليم بما كان وما يكون وما سيكون ويبني سرده غير الواقعي على التتابع ويستعمل أسلوب الاسترجاع الزماني مع توظيف الحوار المباشر وأحيانا قليلة الاستبطان الداخلي، وبطله حصان الإسطبل الذي جمع البغال ودعاهم إلى الاتحاد ضد الاختراعات الحديثة، شاكياً من التمدن الذي يستغني به الإنسان عن الخيول والبغال. وتفتتح الرواية بهذا المقطع ( الحصان يناجي نفسه: أجل قد خسف بدر مجدنا اللامع، وأفل كوكب سلطتنا الساطع وسُدت علينا أبواب الارتزاق فسرنا لغايتنا في ميدان الخباثة والنفاق تحت ظل الانقسام والبغض والشقاق). 

ولكي يتم الاتحاد كان لا بد للحصان من توجيه رسالة إلى الأسد يدعوه فيها إلى القدوم إلى الإسطبل للتباحث في حفظ السلطة وصيانة الحياة. وأنهى الرسالة موقعا ( أخوكم في الحيوانية الحصان)، ثم خطب بالفريق الرافض للتمدن خطبة ثورية فقال: (نحن ضد كل عقل يجهده صاحبه في إيجاد تسهيلات جديدة واختراعات مفيدة، يجب أن نضرب ضربة قاضية، كفانا ذلا وضعفا)، وتكثر في الرواية الجدالات الفلسفية حول اللاهوت والعلم والتحديث العصري، ولا تخلو أحداثها من صور بانورامية ومشاهد درامية، فيها يقوم الحصان بحركات تمثيلية تعزز خيالية اللامحاكاة كهذا المقطع، (بعد أن فرغ الحصان من صلواته رفع حافره الأيمن، وقسّم به الهواء إلى أربعة أقسام راسماً بذلك رسم صليب كبير، ثم جلس على برميله بإزاء العلف ودعا ضيوفه إلى الأكل والشرب والانشراح )، ولكن الاجتماع يتعثر بظهور الثعلب الذي ما إن رأته الجياد والبغال حتى صاحت (اطردوه)، وهنا طلب أن يسمحوا له بالكلام، ولما تكلم، كان لكلامه وقع حسن في صدور البغال والجياد، فأقسموا على الاتحاد متفقين على أهمية الوقوف في وجه الاختراعات والتمدن الحديث. 

وتتأزم حبكة الرواية أولا بمجيء نائب الأسد الذي حضر الاجتماع وقدم وجهة نظر مخالفة، (أنا أرى أيها الحصان والبغل المحترمان أنكما أشد احتياجا إلى الاتحاد منا، فنحن لا نزال رائعين في بحبوحة السؤدد متبوئين عرش السلطة غير المحدودة، ولا يزال لرئيسنا الشأن الأعلى). وثانيا بالثعلب وهو يخون الاتحاد ويستقل الأوتوموبيل. وتجري محاكمته ويتم استجوابه بقسوة بوصفه كافرا. وسرعان ما يدور بينه وبين الحصان جدل فلسفي وديني طويل، وتنتهي المحاكمة بتعذيب الثعلب بآلة جعلته يقول: ( قاوموا الشر بالخير فإن كل ما أقوله الآن باعتقادكم شر، فلم لا تقاومونه بالأمثال الصالحة كما يأمركم السيد .. فاستولى على المجلس السكوت)، ويقرر الاتحاد الحيواني الحكم على الثعلب بالإعدام حرقا، ولكن ( لم يكد الحصان يلفظ اسم الخالق حتى حدث في الجو اضطراب عظيم فاكفهرت السماء وهطلت الأمطار.. فوقف الجميع مرتعشين خائفين ثم انقشعت الغيوم وظهر من ورائها الأسد راكبا أوتومبيلا كبيرا، فوقف وخاطب الحصان والحمار والبغل قائلا: اطلب الرحمة وليس ضحية قلت لكم: أحبوا أعداءكم)، وتنتهي الرواية بالجياد والبغال وهم على السكة الحديدية والقطار (يمر عليهم جميعا فيسحقهم سحقا.. وتتشتت أعضاؤهم المتقطعة على طريق التمدن الحديث). وعلى الرغم من خيالية اللامحاكاة في هذه الشخصيات، فإن سببية الحبكة تجعل الرواية واقعية، مقدمة رسالة اجتماعية وأخلاقية، فالإيمان بالعلم هو نفسه الإيمان بالعقل.