أنا المرأة مؤودة في تراب العيب

ثقافة 2023/10/25
...

فيء ناصر



حسب هيدغر أن الشعر هو السماح الأصلي للإنسان للسكنى على هذه الارض. أي أن الإنسان مدعوٌ لكي يسكن بشاعرية على هذه الارض، الشاعرية إذن الشاعرية ليست مجرد نوع أدبي أو شعري، بل هي جوهر انسانية الإنسان، ومن ثم فأن هدف الشاعر هو العمل على إستعادة الشاعرية الى الأرض وأنسنتها، وعلى الشعر أن يقيم سكناً للإنسان ليس فيه إغتراب بحيث يصبح بيت إطمئنانه.
 ويبدو ان الشاعرة الفلسطينية لين الوعري قد وضعت لبنتها الرابعة في بيتها الشعري، الذي سيكون بيتا لنساء ذيل القافلة وهن النساء المنسيات واللواتي لاصوت أو سكنا لهن. تقول الشاعرة بما يشبه المنفستو النسوي: (لا خوف / هذا أنا / أكثر من مجرد موؤودة في تراب العيب) ص62 

(نساء ذيل القافلة) هو الاصدار الشعري الأخير للشاعرة لين الوعري وقد صدر عن منشورات (غاف) الاماراتية، وهي دار نشر ومتجر لبيع الكتب تديرها وتشرف عليها مجموعة من الكاتبات الاماراتيات. 

ويعد عنوان المجموعة (نساء ذيل القافلة) مفتاحاً دلالياً كبيراً ونصاً مستقلاً قائماً بذاته ويمثل الوحدة الدلالية الأولى الحاوية لفكرة النصوص جميعها، بتركيز وكثافة والتي ستتفرع منها أنساق النصوص داخل المجموعة بالتتابع. ولمفردة (قافلة) دلالة إيحائية مكانية تعيد تذكيرنا في الحال بالترحال وعدم الاستقرار، كأن الشاعرة تذكر نفسها والقارئ، بأنها الفلسطينية التي كُتب عليها وعلى اجيال قبلها وبعدها بالنفي القسري. بينما تحيلنا مفردة ذيل الى كل ماهو هامشي ومتأخر وغير منظور له وربما مستحقر، والمفردة الاولى (نساء) ستكون الكلمة والثيمة الأولى والاخيرة في الديوان التي تشمل كل أنواع الألم والتهميش وعدم الانصاف والمساواة الذي تتعرض له نساء الشرق خاصة. في الجملة الاخيرة التي اختتمت بها ديوانها تقول لين الوعري :(هذه المجموعة لم تنته ما دام هناك دم يراق كل يوم لنساء عوملن كخطايا).   

الأنا الشاعرة والآخريات

تتداخل (أنا) الشاعرة مع أنوات النساء، فأنا وهي وهن تغدو واحدة مستعينة بمحاكاة الاسطورة والميثولوجيا والكولاج الشعري والمسرحي داخل النص الواحد، فالشاعرة تكتب نصا شعريا لكنها تهدف إلى ما هو أكثر من القصيدة فهي تريد تسليط ضوء شعري على قضايا النساء أينما كنَّ، ومع ذلك فهناك وعيُّ شديد بالميثولوجيا كقناع واسقاطاتها على الحاضر، كأن الديوان كله صرخة احتجاج على تهميش المرأة وبخس حقها في المجتمعات الذكورية.  

في النص الذي يفتتح المجموعة، ويحمل عنوان (نساء ذيل القافلة)، توظف الشاعرة التفاصيل اليومية الهامشية للمرأة مثل، (زجاجات العطر الفارغة/ دم الاصابع على لوح التقطيع/ (النظرة) المعيار في الطبخ وفي كيل العتب وفي اللهفة والحب والحقد). لقد حوّلت لين الوعري هذه التفاصيل الهامشية وغير المرئية إلى كيان مستقل يحمل دلالاته باعتماده على ( الذاكرة الجمعية ) في التشكل الدلالي والإستعاري لها بتناوب أداء فعلها داخل النص، مرة بفعلها الرمزي، ومرة بفعلها الوقائعي. لقد هيمنت مفردات عوالم النساء مثل (طمث، ولادة، خلخال، مريمية، خاصرتي، حقيبتي، ثدي، آلهة) وغيرها الكثير على عموم المساحة المتنية لنصوص المجموعة، كأن الشاعرة تراهن على قوة هذه المفردات في ذهن القاريء كأدوات للتداول الإيحائي او المباشر لعوالم وما تعانيه النساء. 

إن اللغة في (نساء ذيل القافلة) هي لغة الواقع اليومي لأي امراة، تنصت الشاعرة لإيقاع هذا الواقع المرّ وتسجل مأساته وترتهن لتوهجاته وأسئلته. لكن هناك ميزة هامة تميز نصوص (نساء ذيل القافلة) وهي استدعاء واع ومبدع للاسطورة ورمزيتها بطرق التداعي والمونولوج والدايلوج، وكما هو معروف ان الاسطورة رمز لغوي وميثولوجي، لكنه يصبح شعريا اذا استخدمها الشاعر بطريقة تخدم رؤاه الشعرية. ففي نص خيانة الربة العاشرة تستلهم لين الوعري أساطير الخصب الكنعانية والسومرية وأسطورة ربات الألهام اليونانيات التسع لكنها تزيد عليهن واحدة هي (عنّات) الكنعاية القادمة من العصر الحديث وهذا تماه وقناع واضح لأنا الشاعرة في (عنّات) تقول: 

(أول الثلج على خد القصيدة 

رعشة السطر الأول لتحولات أوفيد 

اللبسة الأخيرة لتاج كاليوبي 

ثور كهف على مقبض منجل ينقض 

حقيبة مايكل كورس من السنة الفائتة 

هذا أنا 

ربة السنة العاشرة 

والرقص بلا أكاليل الغار) 

ثم وبصوت عشتار تنادي على ديموزيها: 

(يا حبيبي لم يبق لي 

سوى دمعة تغسل خرافتي 

فلتصعد إليّ ببركة الحب سبعا 

ولتفكّ قيدك السفلي سبع أفراس 

تعلّق بجيدها سبعون حلم)  

كان الشاعرة تحاور الاسطورة وتستحضر روح الانثى الخالدة في ذاتها وفي غيرها من النساء لتملأ الفراغ بين الماضي حينما كانت المرأة آلهة ومعبودة والحاضر المرّ. 

بعض نصوص المجموعة تبنى على معاناة النساء البيولوجية في الطمث وعسر الولادة، تقول في نص (ولادة):  

(ومدّ تراجعي يلفّني/ دعوني أنام كبرتقالة/ وهبتْ عصارتها وانكمشتْ)

تشير الشاعرة بوضوح إلى عسر الولادة التي تختبرها بعض النساء وبدل أن يساعد الطلق على ولادة الجنين، يتمسك الرحم بالجنين كرد فعل غير واع على المخاض. الشاعرة تسحب القصيدة إلى منطقة الأنثى أم العالم وليست الأنثى الجميلة اللعوب التي يتغزل بها الشعراء، وهي عن وعيّ تام تثري النص بنثر المرأة، وما يبدو لاشعريا، وما يمثل ثمرة الخبرة الحياتية المجردة.   

 هناك نصوصا اخرى تبنى على احالات أدبية أو ثيمات من كتب اخرى مثل رواية الامير الصغير لانطوان دو سانت اكزوبيري ورواية الجوع للكاتبة اميلي نوثومب، بينما يبنى نص (نساء على مشارف الأربعين) على ثنائية (الاخضر/ نباتات المنزل) و(الرمادي/خريف العمر).  

 للنصوص صراخ الأنثى وفجيعتها وخيبة أملها، نص (طلاق غيابي) مثلا، لكن هذا الصراخ تمسّكَ بنبوءة الشعر فقط، كأنه موقن ان الشعراء والشاعرات هم من يديرون دفة هذا العالم: (صوتنا ليس من كواكب أخرى/ أرض الشاعرات/ إن لم تكنّ فيها/ لن تكون)ص91

ان نصوص المجموعة بشكل عام هي تمثيل شعري، حركي، ميثولوجي، مسرحي، موسيقي ليوميات الانثى: (أمشي بجسد لم يعد لي منه سوى الخوف)ص 47. ويكاد لا يخلو نص من مفردات مثل :(ألم، تعب، غضب، ملح، دم، دمع، موت)، هذه النصوص تميل الى تمثيل الواقع شعريا بلا مواربة أو تجميل، فهي تختزل اللغة الشعرية لصالح الواقع.

هناك أيضا الضمير (أنا) الحاضر بقوة، لايقتصر على إشارته النحوية والصرفية، باعتباره ضمير المتكلم، لكنه يتجاوز وضعيته تلك ليصبح إشارة على (هنّ) التي تتمثلها (أنا) الشاعرة : 

(أنا لا أطهو 

أنا أتطّهر من هذا العالم)ص54 

*لين الوعري/ شاعرة فلسطينية تعود أصولها لمدينة القدس ولها أربع مجاميع شعرية هي (عشرون ربيعا/ 2009 )، (ليل ترانيم الوجع الغزي/ 2014 )، (ولي انفعالات الغيمة/ 2016 )، (نساء ذيل القافلة/2021 ). 

*الاقتباسات بين قوسين من مجموعة (نساء ذيل القافلة)