حيدر عبدالله الشطري
يقول الناقد المسرحي العراقي د. حسين علي هارف: إنَّ “الذي يُغري الكتاب والمخرجين المسرحيين في نصوص شكسبير هو البعد الإنساني لأبطاله والصلاحيَّة الدراميَّة الخالدة على مرِّ العصور لصدقيَّة شخوصها والإمكانيات التأويليَّة المفتوحة على مصراعيها لتكون شاهدةً على العصر الراهن وناطقة بلسان حاله وواقعه”.
فشكسبير سبر أغوار الأعماق الإنسانية واشتغل في أبعد نقاط قوتها وضعفها وستكون تجربة عميقة تلك التي تُعيد قراءة تراجيدياته وفق تصورات تعتمد على الدخول في أماكن أكثر خطورة من غيرها.
ويتأكد ذلك عبر استثمار الكثير من كتاب المسرح للنصوص الشكسبيرية والتعالق معها في إنتاج نص لاحق ينتمي بدرجة أو أخرى إلى النص الأصلي, ولقد عرف المسرح العالمي والعربي والعراقي الكثير من هذه التجارب.
ولخصوصية هذه النصوص أيضاً وامتلاكها دلالات متعددة في مضامينها وقابلة للتفكيك في إنتاج معانٍ جديدة مقترحة صارت ملعباً تجريبياً للكثير من الرؤى والأفكار والطروحات وكذلك كان واحداً من أهمِّ أسباب الاشتغال عليها يعود إلى اللغة الشعرية باذخة المعنى والفخامة اللغوية العالية بالإضافة لما تحمله من تراكيب نفسية عبر المنلوجات الشخصية لأبطالها.
النص
واستناداً لكلِّ ما تقدم اعتمد نص مسرحية (أجراس الدم) على التعاشق مع نصي (مكبث, عطيل) لشكسبير ومحاولة الاستفادة منهما في تأطير نص آخر يتفق مع طروحات المعد لهذا النص والذي هو نفسه مخرج العرض الفنان الشاب (حيدر حليم) وهو بذلك أراد أن يقف على أرضية صلبة أغرته كثيراً في جعلها نقطة شروع للانطلاق منها في مقترحاته النصية وليحلق في فضاءات واسعة تمتلك طاقة تأثيرية كبيرة في تصوير المعاني الكبيرة وتتيح له أيضاً الاشتغال بمضامين كثيرة تنتمي برمتها للطروحات الشبابية التي تسعى دائماً إلى المغامرة والتجريب في مناطق وعرة.
فكان مكبث وزوجته وعطيل ودزدمونته هم أبطال نص (أجراس الدم) وهم الذين ينهضون من جحيم الموت لكي يدقوا نواقيس الموت لكي تستمر مسيرة الحياة التي لا مناص فيها من الموت وإن تعددت أسبابه وطرقه, فلم يعودوا إلا لكي يصوروا لنا هول ما اقترفوه وحتى يرسموا لنا طريقاً للحياة بعيداً عن الخيانة والشك والجشع والطمع, لم يكونوا يختلفون كثيراً عن شخصيات شكسبير الأولى وكانت شخصيات تالية لم تفلت من ربقتها فليس من السهولة الانتفاضة على شخصيات كبيرة وإعادة تشكيلها فإنَّ (مكبث) إنسان بكل ما تحمله الإنسانية من معنى، ولكن دُفع مرغماً نحو الخيانة والجريمة، أليس هو من يقول: إنَّ “نفسي مليئة بالعقارب”، و”ليس العبرة أن تكون ملكاً بل العبرة أن تكون آمناً”.
و(عطيل) لا يمكن أن يستمر بالزواج من دزدمونة العفيفة والجميلة والعاقلة وهو الذي يتصف بالغرور والعقل المريض.
ولكن هناك بعض الأسئلة التي يجب أن تُطرح أمام المخرج المعد وهي إلى أي مدى استفاد هذا النص المعد من النصوص الشكسبيرية...؟
وهل اعتمد على الحوارات الشكسبيرية فقط وانقاد إليها...؟
وماذا يمكن أن نسمي ذلك التشابك مع هذه النصوص...هل هو اتفاق أو اختلاف وهل هو مصالحة أو افتراق...؟
وبعد معرفة الأجوبة لهذه الأسئلة عندها سنكتب عن هذا النص الذي لم يشر إليه أبداً من قبل صانعو العرض وسنعرف حينها إن كان نص مؤلف أم معد أم متناص.
العرض
لم تختلف مسيرة العرض الذي سار بالاتجاه الذي رسمه النص بخطه البياني غير المتنامي والسيناريو الذي اقترحه والذي اتسم بتقويض وتكسير البناء الدرامي المحكم.
لكن المخرج استطاع من خلال أدواته التي عمل بها من عناصر العرض الأخرى أن يؤسس لعرض مسرحي مكثف ومختزل ومنضبط إيقاعياً بقدر ذلك التكثيف.
دخل العرض في لعبته التقديمية من التركيز على فعل الانبعاث من الموت من على دكة تغسيل الموتى التي لا يمكن أن نسميها ولادة لأنها لم تكن تبدأ من الصفر بل ابتدأت من حيث انتهى مكبث وعطيل وحيث كانت الليدي مكبث ودزدمونة, إنه استدعاء للتذكير بملامح الموت الذي يحيط بالشخصيات من كل جهة وإنه المصير الذي سينتهون إليه لا محالة, الموت الذي قدمه العرض بطريقة مكررة عدة مرات فتخرج لتموت وتنبعث لتعود إلى الحياة وهكذا تكون دوامة الموت التي تدور دائماً بلا توقف.
قام المخرج بتقسيم خشبة العرض هندسياً بشكل مستطيل عرضي يمتد من يمين الخشبة إلى يسارها بسلكين قام بتوظيفهما جمالياً بحيث تدخل كل الأشياء وتخرج من خلالهما، الممثلون يخرجون معلقين, الفريمات التي تدخل وتخرج بحركة السحب لها والفوانيس أيضاً, فكان العرض صورة ظاهرة للعيان بشكل مقطع عرضي لصورته ما عدا دكة تغسيل الموتى التي تقع في عمق الخشبة وكأنها خارج إطارها وقد ساعد هذا التقسيم على كشف مساحات واسعة من جغرافية الخشبة.
وبعد جولة من التوتر والاحتدام ما بين شخصيات العرض يلجأ ويركن المخرج إلى تقديم مشهد تعبيري راقص ومؤثر استطاع من خلاله أن يخفف من حدة هذا التوتر وأن يعيد ضبط إيقاع عرضه الذي اتجه نحو الأزمة ولكي يؤسس أيضاً لاحتدام قادم وأزمة جديدة وقد اعتمد في ذلك على البث الموسيقي المباشر كمؤثر سمعي في تنفيذ الفنان الموسيقي علي كامل الذي برع في ملاحقة الحدث المسرحي والتعبير عنه بلغة موسيقية بالغة التأثير.
قدّم العرض ممثلة واحدة لتجسيد شخصيتي الليدي مكبث ودزدمونة لكنها لم تغادر الشخصية الواحدة لا في الشكل ولا في التحول بين الشخصيتين ولو عن طريق تغيير الأزياء لتبديل الدور على أقل تقدير ولا نعلم فقد أصبحنا نرى امرأة واحدة لرجلين اثنين أو لكل رجل منهما نصف امرأة.
وهكذا يستمر العرض باتقاده بفكرة الموت الذي تعود إليه كل الشخصيات ثم تنبعث مرة أخرى وأخرى بأسلوب التدوير والدائرة المغلقة ولكن هذه المرة كان الموت أشد جحيماً وضراوة فربما ليس هناك عودة أخرى لمكبث وعطيل وإنما سيلف شخصيات أخرى لا نعرف من هي.
قدّم لنا العرض مجموعة من الممثلين الواعدين الذين استطاعوا أن يتحملوا عبء الشخصيات الكبيرة التي تقمصوها وأن يقدموها بالتماهي معها بعد الغور في أعماقها السحيقة واكتشاف درر تراكيبها ولذة تقديمها.
بقي أن نقول إننا شاهدنا عرضاً مسرحياً شبابياً واعداً يستحق منا الإشادة به ورعايته بعد أن قدّمه لنا ثلة من الشباب المسرحيين الذين عملوا بكل اجتهاد من مخرج وممثلين وفنيين.