متى يعتزل المطرب الغناء؟

ثقافة 2023/10/25
...

 بغداد: سامر المشعل 

السؤال الاكثر ألماً وإحراجاً، فهو يشبه أن يتخلى العاشق عن معشوقته مرغماً.. والقرار الحاسم الذي يتخذه المطرب، لينهي حياته الفنية، عندما يجد نفسه لا يقوى على الأداء، مثلما كان في عز نجوميته، كي يحافظ على صورته وصوته في نظر محبّيه وعشاق فنه، لكن هذا ليس بالأمر الهين، فصرنا نشفق على بعض المغنين، وهم يؤدون أغانيهم، التي أحببناها بنشازات، ولا يستطيعون إمساك التون أو الوزن.. فيعرض الفنان نفسه إلى السخرية ويسيء إلى تاريخه الفني، الذي كان يوما ما مرصعاً بالإبداع، فيثلم شخصيته، وهو في الهزيع الأخير من مشواره الفني.

متى يعتزل المطرب الغناء؟، هذا السؤال كان مدار بحث بين مجموعة من الفنانين المعنيين بالشأن الموسيقي والغنائي، فجاءت آراؤهم ورؤاهم بالشكل التالي:


بلاسم عجوب: الغناء مثل الهواء

إذا تركه الإنسان يموت

الفنان الرائد والملحن والمطرب بلاسم عجوب يرى أن المغني لا يستطيع اعتزال الغناء، فالغناء بالنسبة له كالحب والعشق، وعندما يهب الله سبحانه وتعالى موهبة الصوت الجميل، فمن خلاله يعبر عن خلجاته ومشاعره الإنسانيَّة، وبذلك يؤكد عجوب أنَّ الغناء يعني الحياة بالنسبة للمطرب مثل الهواء والماء والطعام فإن استغنى عنهم مات.

ويضيف بلاسم.. نصح الأطباء الفنان فريد الأطرش بترك الغناء، لأن قلبه التعبان يستدعي التوقف عن الغناء، لكنه رفض ولم يستجب لنصائحهم، وظلَّ يغني حتى مات. كذلك موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب قدم بعمر 84 سنة أغنية "من غير ليه"، وهي أغنية صعبة جدا من حيث الانتقالات المقاميَّة والإيقاعيَّة وصياغتها المركبة، إلا أنه أدّها بكل جدارة واقتدار، وفي العراق عندنا الفنان محمد القبانجي، فقد تجاوز العقد الثامن من عمره، وهو يحيي الحفلات ويقدّم أصعب المقامات، إضافة إلى مطربين آخرين مثل صباح فخري ووديع الصافي وإبراهيم طاطلس.

ويستدرك بلاسم.. قد تكون هناك حالة قسرية تستدعي الفنان أن يترك الغناء مثلا خروجه عن التون وضعف الصوت، فمن أجل أن يحافظ على سمعته، يبقى يغني لنفسه، من دون إحياء حفلات عامة، لأن الغناء بالنسبة للمطرب تعني الحياة، ولا يمكن الاستغناء عنها، ولا يوجد حد أو زمان لاعتزال الغناء.


زياد الوادي: قد تتحول النجوميَّة إلى كابوس يؤرق المطرب

الموسيقي زياد الوادي قائد فرقة صلاح الدين المركزية، يرى أن المسألة نسبية، ولكن الثابت اعتزال الغناء عندما يفقد المطرب القدرة على الأداء بشكل سليم، وضعف في الامكانية الصوتية. 

ويؤكد الوادي أن قرار اعتزال الغناء صعبٌ جداً، ولكنه ضروري للمطرب لحفظ تاريخه الغنائي، فتلك الصورة المشرقة، يمكن أن تتحول إلى كابوس حقيقي يؤرق المطرب في حالة الاخفاق، وهذا ما حصل مع عدد من المطربين. 

ويشير الوادي إلى أن المقارنة مع أصوات أخرى خطأ كبير، فليس كل مطرب يمكنه أن يبقى محافظًا على قوة صوته عند تقدمه بالعمر، كما هو الحال مع أم كلثوم، التي مرت بمراحل عمرية مختلفة مع أنها كانت تغني بطبقات أقل مع تقدم العمر، لكنها حافظت على أدائها السليم وتطريبها العالي، وربما كانت تغني بطعم أكثر رخامة، وهذا ما جعلها متألقةً إلى آخر لحظة في حياتها، وهذا ما نسميه بـ "النسبية"، فهناك مطربون آخرين وقعوا في فخ تشجيع محبيهم، كما هو الحال مع ميادة الحناوي، التي تركت الغناء لفترة طويلة، ثم شاهدناها وهي تفقد سيطرتها على الصوت، وينخفض التون وترتبك العُرب الصوتية ويتلاشى ذلك البريق الذي تعودناه، جورج وسوف هو الآخر ما زال يغني، وله محبوه، وهم يرون فيه جورج الثلاثيني. 

ويختم الوادي حديثه بالقول "الغناء ذائقة وتطريب وجمال وصوت، فإن فقد أحد خواصه صار لزاماً على المطرب التوقف والاحتفاظ بما لديه من إرث غنائي". 


محمد الغريب: من يدخل الفن

لا يستطيع مغادرته

الملحن محمد الغريب الذي يقيم في أميركا وقدم ألحانا لأجيال متعددة يقول "أغلب الفنانين بمجرد ما يسأل عن الاعتزال، تكون الاجابة.. ولما؟ وتختلف الإجابة من فنان لآخر، حسب ثقافته. 

ويواصل الغريب حديثه الممثل المسرحي يبقى ممثلاً، ولكن لياقته تهبط وحركته تضعف، فنراه يتثاقل في مشيته، وتصبح ردود أفعاله أقل مما كان عليه، وإن كان يتمتع بذاكرة جيدة.. ومن الممكن أن يقدم أدوارا تناسب عمره، أو يعتذر.

ويوضح أن وضع المغني يختلف، فقدراته الصوتية مع مرور الوقت تضعف، حينما يصل إلى مرحلة يعجز فيها عن إرضاء الجمهور، وإرضاء الجمهور غاية لا يدركها، إلا الفنان المتمكن من أدواته، فالمفروض عندما يصل لهذه النقطة يتوقف. 

وهنا لا بد من أن يقرر الاعتزال، كي يحفظ ما تبقى من تأريخه الفني ومنجزه على مر الأعوام. 

وينوه الغريب بأن مشكلة الفن من يدخله لا يستطيع مغادرته بسهولة، وإن كانت الأسباب واضحة كوضوح الشمس. 

وهناك أسباب كثيرة تستدعي المغني للاعتزال، منها العامل الديني مثل ما حصل مع فضل شاكر، والفنان الأردني صاحب الصوت الساحر ربيع الخولي، الذي أصبح اليوم (الأب طوني الخولي)، لكنه لا يخجل من

المرحلة التي كان فيها مغنياً. 

وبعض الفنانين يقررون الاعتزال عندما يقل جمهورهم، بسبب تغير الذوق والمزاج العام.. وهناك من يقاوم الاعتزال على حساب سمعته وتاريخه.. ولله في خلقه شؤؤن.


رياض المحمداوي: الفن روحٌ

وليس مهنة

الموسيقي ومسؤول موقع "دنيا فن" رياض المحمداوي يرى أن فكرة الاعتزال صعبة جداً على الفنان، خصوصًا المغني وتكاد تكون مستحيلة، لكونه لا يريد مغادرة فنه وعالم الأضواء والشهرة والعز والجاه والعلاقات والمعجبين حتى لو تقدم به العمر". ويشير المحمداوي إلى جملة من الأسباب القاهرة، التي تفرض على الفنان الاعتزال ومنها: تغير الصوت وضعف التون نسبة لمرض معين أو حادث أو نتيجة كبر السن، وتناقص أعداد المعجبين من حوله، باعتبار ما يقدمه من لون غنائي أصبح من الماضي، ولم يواكب أذواق الجيل الجديد، ويبقى يقدم فنه لفئة معينة من محبي أعماله وعاشوا أيام نجوميته.

ويبيّن المحمداوي أغلب هؤلاء المشاهير يعيشون في عزلة وصراع، يعلوه احباط نفسي بعد أن تحولت حياتهم من عالم الأضواء والشهرة إلى عالم النسيان والإهمال، وأحياناً تتحول حياتهم للفقر والعوز ولا يجدون ما يعينهم على العيش الكريم، وهذا ما شاهدناه مع الكثير من الفنانين، التي تحولت حياتهم لمآسٍ وفقرٍ ومرض. وعلى الرغم من كل الظروف يبقى الفنان متمسكاً بفنه، حتى الرمق الأخير غير مصدق أنه يمكن أن يغادر الشهرة وأضواء المسرح، وقليلون جدا الذين أعلنوا اعتزالهم. 

ويؤكد المحمداوي مختتما حديثه، لا يوجد عمر افتراضي لاعتزال الفنان، سواء كان مطربًا أو موسيقيًّا أو ممثلًا أو تشكيليًّا.. فالفن روح قبل ان يكون مهنة، فلا يستطيع أحد أن يتخلى عمّا مزج بروحه.