غواية هيروشيما لباسم فرات
د. زينب باسل الداغستاني
تنطلق مقالتنا من مجموعة تساؤلات، منها هل يمكن لمدينةٍ ما أن تمارس غوايتها النورانيَّة؟ وهل يمكن لهذه المدينة أن تحولَ الجحيم إلى جنة؟ والخراب إلى بناء؟ وهل يمكن لمدينة ما أن تقدمَ إجابات لأسئلةٍ متعددة؟ وهل يمكن لهذه المدينة أن تكون مفتاحا لمغاليق قصائد شاعرٍ ما؟ وهل يمكن لمدينة ما أن تستحوذ على مشاعر كاتب ما؛ فتضحى مدينته الفاضلة؟ وهل يمكن لمدينة أن تسقي الرحالة إليها سبيل الغواية التي لا سبيل إلى الإفاقة منها؟
(هل تودُ الإقامة في هيروشيما؟)، فكان الجواب أسرع إجابةٍ، يقول باسم فرات: (بدأت أشعرُ بحاجةٍ إلى الخلاص، ومرت الأيام ثقيلة حتى إذا ما ضاقت عليَّ وإذا بزوجتي تدخل عليّ وأنا جالسٌ في البيت، وكنت وصلت من العمل قبلها، لتفتح الباب وتسألني سؤالً عجيبًا: هل تودّ الإقامة في هيروشيما؟! لم أفكر لحظة واحدة، فكانت أسرع إجابة على سؤال في حياتي، أنا الذي ارتبك أمام أيّ سؤالٍ يُوجّه لي، نعم أجبت بأقل من لحظة، أكيد وسأكون أولَ شاعرٍ وأديبٍ عراقي وعربي يعيش في هيروشيما). (طريق الآلهة من منائر بابل إلى هيروشيما، ص29).
أقول نعم؛ فقد أغرت هيروشيما باسم فرات وحفرت في روحه حفرًا عميقًا (هيروشيما مدينة مغريةٌ لابنِ ماء وسهل مثلي يعشقُ الجبل والبحر على الرغم من أنّها مدينة حين عشتُ فيها كان عمرها أقل من ستين عامًا بسبب ما تعرضت لهُ في آب 1945 ميلادية، لكن عبق الماضي لم يغادرها.. كلُّ شيء حفر عميقًا في روحي، لم تستطع أية مدينةٍ باستثناء بغداد أن تحفرَ بهذا العمق مثلما فعلت هيروشيما). (طريق الآلهة من منائر بابل إلى هيروشيما ص36).
ففيها فتح دفترًا جديدًا، دفترًا دوّن فيه حياة سيكون لها شأنٌ كبيرٌ في نكهتها وغرائبيتها حياةٌ مبنية على الاختلاف والمغامرة: (كثيرة هي المدن التي أحببتها وتركت وشمها في ذاكرتي، لكن هيروشيما تعّرت وبكامل عريها ودخلت ذاكرتي وقلبي وزرعت نجوما في ليل ماضيّ الطويل، هيروشيما والأنهار الستة ترقص في عيني، كنتُ أحملُ وجعًا كبيرًا تركته أيامي التي هناك في جنوب الجنوب ما أقسى الهناك! أحيانًا. في هيروشيما فتحتُ دفترًا جديدًا وبدأتُ أدونُ فيه حياة سيكون لها شأنٌ في نكهتها وغرائبيتها وتنوعها ودهشتها. حياةٌ مبنية على الاختلاف والمغامرة بدءًا من القراءة والكتابة والترحال والوعي، وفيها بدأتُ أمسكُ بخيوط أسئلة حاصرتني طويلاً، وأهمها أسئلة الهوية والتنوع وكيفية معالجة سرديات المجموعات اللغوية غير العربية في منطقتها و محاولة تلاقي أساطيرها المؤسِسة للكراهية وللمظلومية). (طريق الآلهة ص 36- 37).
أيمكن لأيَّ مكان أن يمارسَ غوايته على الرحالة؟؛ فتصيّره من حالٍ إلى حال آخر؟!، نعم فإنّ هيروشيما لم تتوانَ عن أغواء باسم فرات (هيروشيما أغوتني؛ لكن غوايتها لم تكن شيطانية؛ بل غواية نورانية فيها عرفت كيف تحول الجحيم إلى جنةٍ، والخراب إلى بناءٍ). ( طريق الآلهة ص38).
هذه الغواية صيّرته في حالةٍ شغفٍ، لأنها حثتهُ على أنْ يكون ذاتًا شغوفةً بكل ألوان المعرفة (هيروشيما حثتني على أن أكون أنا الذات المكلومة، ولكنها شغوف بكل شيءٍ بمعرفة لا حدود لها، شغوف بالطير والنباتات واللغات والعقائد والموسيقى والفنون كلها، شغوف بهيروشيما نفسها . هيروشيما التي لولا بغداد لقلتُ هذه مدينتي الفاضلة. هيروشيما الأُسر التي تنهض صباحًا لتنظيف الحارة ووضع الأوساخ والفضلات في مكانها المخصص، حتى كأنّ الشوارع والأرصفة والازقة والحدائق والمتنزهات تتباهى بنظافتها أمامَ نظافة بيوت اليابانيين).( طريق الآلهة ص37) .
ويطالبنا باسم فرات بالتماس العذر له لتكرار عبارات الشغف بها: (ما شُغِفتُ بمدينةٍ مثلما شُغِفتُ بمدينة هيروشيما، وما سحرتني مدينة مثلها باستثناء بغدادَ، واعذرني أيُّها القارئ يا شريكي وصنوي، تكرار عبارات الشغف بهذه المدينة، وأني لأطمع بوعيك وتفهمك تكرار عبارات الشغف بهذه المدينة، وأني لأطمع بوعيكَ وتفهمك لضحية استُغِلَ في كل مكانٍ عمل فيه كثيرًا من خجلهِ وحيائه وانغماسه وهوسه بالشعر والكتب، وكانت هيروشيما أول مدينة أتفرغُ فيها للشعر وللقراءة وللتأمل وللسفر، ولا عمل لي سوى ما ذكرت، فضلاً عن أنهارها وطقسها ورمزيتها وتهذيب اليابانيين الذي لا يُعل عليه تهذيب لأي شعبٍ آخر). ( طريق الآلهة ص44).
(مفتون أنا بهذه المدينة) يعلنها فرات بلا خجل؛ يقول: (كنتُ أحجُ إليه باستمرار أركبُ دراجتي الهوائية وأعبر جسرًا ثم أدخل في فضاءات حديقة السلام، أتأملُ المتقاعدين الناجين من الحرب وحماقاتها يأتون يوميًا ليستظلوا بسلام الحديقة.. مفتون أنا بهذه المدينة، أُعبي ذاكرتي بنسيم الأشجار هذا المكان، إنه وسط مدينة هيروشيما). ( طريق الآلهة،ص49).
(أُلوحُ لبغداد) في هيروشيما لوَّح باسمُ فرات لبغدادَ بقلبه (كلُّ شيءٍ في هيروشيما مذهل وقريب للنفس، لم أشعر بعُشر ما شعرْتُ به في هيروشيما، لكنْ بغداد بليليها الآلف حتّى بخرابها تستوطنني، فأمشي في شوارع هيروشيما، وعلى ضفاف أنهارها الستة وأنا اُلوّحُ لبغدادَ بقلبي). (طريق الآلهة ص32).
يعلن فرات افتقاده لشمس العراق الرؤوم وهو في هيروشيما؛ “كنا نتمشى أنا وزوجتي في حديقة السلام، ومظاهر الاحتفال واضحة مثلما مظاهر سعادتي بأنّي الآن في هيروشيما، كان الطقس على الرغم من حرارته والرطوبة العالية طقسًا لطالما افتقدتهُ، أنا ابن الشمس العراقية اللاهبة بعواطف العراقيين. لكن شمس العراق حتى لو تجاوزت فيها درجات الحرارة الخمسين فهي شمس لا تحرق الجلد والشمس وشمس هيروشيما أقربُ على شمس العراق الساطعة الرؤوم... حتى جعلتني أغيّر بيت شعر شهير للشاعر بدر شاكر السياب نصه: “حتى الظلام أجمل فهو يحتضن العراق” ولكي لا يختل الوزن أبدل مفردة(الظلام) بـ (الشموس)؛ فأصبح البيت -حتى الشموس هناك أجملُ فهي تحتضنُ العراق- إنَّهُ هوسُ المنفي ببلاده”. ( طريق الآلهة ص60).
يستحضر باسم فرات فاجعة كربلاء عند حضوره لاحتفالية الفوانيس التي تقام عند ضفاف نهر “ مُوتوياسو” في مدينة هيروشيما تخليدًا لضحايا القنبلة الذرية (إن ما يقوم به أهل كربلاء وأهل هيروشيما في جوهره واحدٌ؛ فكلاهما يشعل الشموع في مساء- قبيل وبعد الغروب- يوم حدوث الفاجعة الكبرى فاجعة كربلاء وفاجعة هيروشيما تخليدًا لأرواح الضحايا ومعاناتهم للذين تحوّلوا في ذلك اليوم -العاشر من المحرم- بالنسبة لضحايا واقعة كربلاء، و- السادس من شهر آب أغسطس- بالنسبة لضحايا القنبلة الذرية غرباء لا لا عودة لهم، وهل يعود الموتى؟ وتركوا رغمًا عنهم ذويهم غرباء في الأرض يعانون الفَقْدَ والحزنَ وكأنَّ ايقاد الشموع رسالة إلى الضحايا تُعبرُ عن وفاء الأحياء لهم وأنّهم أحياءٌ في قلوب محبيهم). (كربلاء وهيروشيما طريق الآلهة 80).
فكيف لهكذا مدينة بذكرياتها أن تتحول إلى ماضٍ؟ وأنى لباسم فرات مفارقتها؟، وهي المدينة التي منحته الطمأنينة بعد أن أغراهُ التغرب والنفي (هيروشيما كيف تحولت ذكرياتي معك ومع أنهاركِ إلى ماضٍ؟! كيف افترقنا وأنتِ زرعتِ فيَّ هوسًا بكِ لا يغادرني؟! غادرتك مرغمًا بعد أن آمنتُ انّك المدينة التي فتحت ذراعيكِ وقلتِ لي: كِلانا أوجعهُ اليُتم والجوع. فهلُمَّ إليَّ وبأنهاري يا ابنَ الماءِ الحي تعمَّدْ).
(أمكنة تلوح أو غوايات الأمكنة، ص19).