شعريّة المفارقة في «لا توقظوه إنه يحلم»

ثقافة 2023/10/26
...

 د. عمار إبراهيم الياسري

منذ الصيّرورة الأولى لنظرية الأجناس الأدبيّة التي اشتغلت على تقعيدها تنظيرات فلسفية لفلاسفة الإغريق (سقراط) و(أفلاطون) و(أرسطو)، وضع للمفارقة حيزا جماليا ضمن الترسيمة البنيوية للنصوص الإبداعية، ولم تخل طروحات النقد العربيّ القديم سواء كانت للجاحظ أم للجرجانيّ من توصيفات للجماليّات النصيّة للمفارقة، بل حتى المدارس النقديّة الحديثة طورت من هذه المفاهيم متفقة ومختلفة في مسارب متنوعة.
وقد ذهب أغلب من نظروا في شعريّة المفارقة سواء كانوا من اللغويين أو من منظري الدراما إلى إن تمظهرها الجمالي يقف على نسقين: الأول لغويّ بلاغيّ والثاني معمار دراميّ، إذ يعمل النسق اللغويّ على التشكيل الخلاق للأساليب اللغوية والبلاغية من أجل هيمنة شعريّة المفارقة فيما يعمل المعمار الدراميّ على صياغة بنية حدثيّة مفارقة للواقع المعيش عبر تقانة كسر أفق التوقع المتماهية مع حركية الفعل الدرامي، ويعمل النسقان في وحدة بنيويّة متآزرة على تثوير طاقة الشعريّة الخالصة.
ولو تابعنا مجموعة لا توقظوه إنه يحلم للشاعر فاضل عزيز فرمان نلحظ تمثلات شعريّة المفارقة المتسقة مع بنية الجملة الشعريّة من جهة والبناء الشمولي للأحداث من جهة أخرى، إذ تتخذ المفارقة اللغوية دورها المهيمن المتمثل بالانزياح الدلالي للتشكيل الشعريّ مما يجعلها تغادر المعنى السطحي الظاهر عبر توظيف الأدوات اللغوية المساعدة على المغايرة الدلالية مما يجعلها أدوات مساعدة في كسر أفق التوقع المفضي إلى المفارقة الدراميَّة، ومن الأدوات المستعملة في الجملة الشعرية لنصوص المجموعة (لكن) الاستدراكية و(إذا) الفجائية و(إلاّ) الاستثنائيَّة و(أم) المنقطعة وغيرها مما يجعل القراءة الأولى تغادر براءتها وتوقعها الاتفاقي مع الواقع المعيش، وقد تمثل ذلك في نصوص عديدة منها (مرايا مقترحة لوجه الفتى الشاعري)، إذ يقول في الصفحة السابعة: «لم التفت إليه ساعة نادى/ يا فتى تعال لي، لم التفت إليه/ لكن روحي هربت من جسدي وأسلمت أجفانها للنوم/ ما بين مروج الورد في يديه».
نلحظ أن أداة الاستدراك (لكن) التي تنفي ما بعدها عن ما قبلها لم تكتف بالتغاير النصيّ فقط، بل اشتغلت على هدم التكرار المتمثل بالجملة الشعريّة (لم التفت إليه) مرتين حينما فارقت المعنى الأول المتمثل بالبعد نحو العودة التي تمثلت بالإغفاءة بين يديه.
ومن الاشتغالات النصية الأخرى للمفارقة اللغويّة التضمين الشعري المخاتل في بنية القصيدة، مثلما نلحظ ذلك في قصيدة (عزف منفرد على وتر الأربعين) في الصفحة الثانية والأربعين، إذ يضمن الشاعر بيتًا شعريًا للشريف الرضيّ يقول فيه: (وتلفتت عيني فمذ خفيت عنها الطلول تلفت القلب) لكن الشاعر يغاير المفردة الأخيرة في بيت الرضيّ حينما وضع مفردة الوجل بدلًا من القلب، والوجل هنا كناية عن الخوف  والقلق على العكس من القلب الذي يرتبط بالنستالوجيا في الدراسات النفسية، إذ إن المفهوم الشمولي للقصيدة يتجه نحو الألم الوجودي المرتبط بالتناقضات التي حاقت بالذات الشاعرة.
أما النسق الثاني للمغايرة الشعرية في المجموعة، فقد تمثل بالمعمار الدرامي المرتبط بالأحداث الدرامية، فكما هو معروف عبر التنظيرات التي جاء بها الفيلسوف الإغريقي (أرسطو) إن وحدة الحدث تتشكل عبر ترسيمة من محاورها المقدمة المنطقية للأحداث المرتبطة بالاستهلال ثم وحدة انطلاق الفعل، ثم مجموعة أزمات فالذروة فالنهايات سواء كانت مفارقة أم منطقية مفتوحة أم مغلقة، ولو تابعنا نصوص المجموعة نلحظ بأن المفارقة التي تكسر أفق التوقع الدرامي تمثلت في العديد من نصوصها مثل (بيت الشاعر) و(سلًم آخر لرجل آخر) و(الصفعة)، و(عندما عاد فائق حسن ليرمم جداريته)، فقد كان البناء الدرامي متوثبًا بطريفة دينامية عمودية وأفقية في آن واحد، وهذا ما بدا واضحًا في قصيدة (الصفعة) في الصفحة السابعة والثلاثين، إذ نقرأ: «حينما فتح القفص الذهبي ليطلق طائره في الفضاء/ ويبصره مثل كل الطيور في السماء/ سقط الطير من كفه ميتًا».
إن التشكيل الدرامي في الجملتين الأوليتين يشي بالحرية، التي سعت الذات الشاعرة لتحقيقها للطير بعد صراع داخليّ أفضى إلى هذه النتيجة المتوقعة ولكن المفارقة التي سورت الخاتمة تمثلت عبر موت الطير بعد هذا الصراع الدرامي الداخلي، والحال ذاته يتضح في قصيدة (سلًم آخر لرجل آخر)، إذ يقول في الصفحة والثلاثين: «يرتقي سلمًا ثم يهوي/ على سلم».
إذ كرر الشاعر (يهوي على سلم) خمس مرات، لكنه وسط هذا التهاوي الذي عبر عن الأزمات التي مر بها البطل ومع ذروة التهاوي كسر الشاعر أفق التوقع ليفاجئنا بأن بطله في صعود ولكن تمثل بطريقة الهبوط، أما قصيدة (الدفاع الأخير)، التي جاءت عتبتها الفرعية تحت عنوان قصيدة نثر، فقد تكونت من مقطعيات عددها سبعة وعشرين مقطعًا تكررت في مطالعها مفردة (أنا) ست عشرة مرة وقد جسدت هذه التكرارات في مطالع المقطعيات ثنائيات متقاطعة عبرت عن الصراع الوجوديّ المرير الذي حاق بالأنا الشاعرة مثل (أنا العبث في مدينة النظام) و(الشعرة البيضاء في الرأس الفاحم)، و(أنا مواطن في وطن غير موطن) فكل (أنا) وردت في المقطعيات عبرت عن أزمة شكلت مع الأزمات الأخرى المعمار الدرامي للأحداث، ولكن مع المقطعيات الأخيرة نلحظ التحول الدرامي الذي كسر أفق التوقع عبر مفارقة فارقت البنية السابقة، وقد جسد الخاتمة هذا التحول في الصفحة السابعة بعد المائة حينما نقرأ :»دون أن يدركوا إن تحت هذه الأرض/ غابة أخرى من جذور باسلة تتهيأ ثانية/ لإطلاق
الخضرة».
مما تم عرضه بالدراسة والتحليل نستنتج بأن مجموعة (لا توقظوه إنه يحلم) للشاعر فاضل عزيز فرمان زاخرة بالجماليات الوافرة التي تحققت عبر تشكيل شعريّ مختلف وما شعريّة المفارقة إلا واحدة من الجماليات التي تم فرزها لأسباب دراسية برع في صياغتها الشاعر فأجاد وأبدع.