د. طه جزاع
صحيح أن " دفاتر فلسطينيَّة " للشاعر والكاتب الغَّزاوي معين بسيسو تدور حول الحزب الشيوعي وتنظيماته في فلسطين ومصر والعراق ولبنان، وتحكي عذابات المعتقلين في سجون الأنظمة العربية بمختلف توجهاتهم الحزبية وميولهم السياسية، لكنها تبدو من جانب آخر أشبه بيوميات لمدينة غزة منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وبالأخص خلال الأحداث، التي رافقت واعقبت يوم الأول من آذار عام 1955، الذي شهد انتفاضة قادها بسيسو بصفته الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني وقتذاك، ضد مشروع توطين اللاجئين في شبه جزيرة سيناء المصرية، بينما سمي بمشروع سيناء، فكان جواب المتظاهرين الشهير: لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان. وكانت غزة يومها تحت الإدارة المصرية.
ولد الشاعر معين بسيسو في بيت جده بحي الشجاعية في غزة يوم العاشر من تشرين الأول، أكتوبر عام 1926، ويسميه بسيسو في دفاتره الفلسطينيَّة بحي السجاعيَّة، بالسين لا بالشين، وكلاهما صحيح، فهو حي السجاعية مثلما نطقه جماعة من المصريين القادمين من مدينة المحلة الكبرى التابعة لمحافظة الغربية في مصر واختاروه للسكن، وهو حي الشجاعية نسبة لشجاع الدين بن عثمان الكردي، الذي استشهد على ثرى غزة أثناء موقعة من مواقع الحروب الصليبية. ومن بداية الدفتر الأول حتى الدفتر الحادي عشر من دفاتر معن الفلسطينيَّة تحضر غزة في الصورة، أو في ظلال الصورة، في صميم الذكريات، أو على خلفية اليوميات، تحضر بتاريخها وأحيائها ونضالها ورجالها، وكلمتها الحاسمة في رفض التهجير، ومقاومة مشاريع إقامة الوطن البديل للفلسطينيين، منذ حسني بلال أول شهيد في قطاع غزة يسقط رمياً بالرصاص في تظاهرات الأول من آذار، وحتى آخر شهيد يسقط في القصف الوحشي الصهيوني الذي تتعرض له منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع من دون توقف، وبدعم ومباركة من الغرب المتحضر، الذي ينظر بعين واحدة لما يحدث في هذه الحرب المجنونة، التي تجاوزت كل المحرمات الإنسانيَّة والأخلاقية، وانتهكت أبسط الأعراف والمواثيق الدولية المتعلقة بحماية السكان المدنيين أثناء الحروب، فتوالت المجازر تلو المجازر بحق الأطفال والنساء والمسنين والمرضى تحت أنظار دعاة المدنية والتحضر وحقوق الإنسان، بل بتشجيعم ودعمهم الذي فاق كل التصورات.
ثمانٍ وستون عاماً تفصل ما بين زمن حسني بلال الذي سقط وهو يحتضن شعار: " كتبوا مشروع سينا بالحبر.. وسنمحو مشروع سينا بالدم"، وما بين آخر طفل فلسطيني يسقط في غزة ليمحو بالدم مشاريع الإبادة والترحيل والتهجير نحو وطن بديل يرفضه كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ويرفضه أولاً وأخيراً أهل غزة الذين سُفكت دماؤهم، وتقطعت أوصالهم تحت أقدام الهمجية.