أحمد عبد الحسين
مع اشتعال شرارة الهجمات الهمجية على قطاع غزة سألتُ نفسي: ما الذي سيقوله المثقف «الإسرائيلي» الآن؟ وذهبت لأقرأ ما يكتبون.
أنا منذ التسعينيات أتابع ما أمكنني كبار كتّابهم ومفكريهم وصحفييهم خصوصاً في “هآرتز” الأشدّ انتقاداً لسياسييهم. فوجدتُ الانتقادات ذاتها، التشكيك بجدوى الحرب، التذكير بأن الآخر إنسان مثلنا، الوقوف ضد نتنياهو شخصياً بقوّة والتذكير بأنه لم يعد مؤهلاً. وتنبهتُ إلى أني لم اقرأ يوماً نقداً جذرياً لإسرائيليّ، لم أعثر منذ التسعينات على مَنْ يتساءل ولو مجرد تساؤل عن مقدار “الحقّ” في احتلال أرض وتشريد شعب واستقدام ملايين ليحلّوا محلّهم.
ليس في تلك الكتابات الناقدة شيء حول الهويّة “الإسرائيلية”، فهذا جوهر صمديّ لا يُمسّ، وإنما الحديث الناقد المقنّع بالجرأة يدور دائماً وابداً حول تلك الإعدادات الثانوية التي تُظهر أن الكاتب الناقد مشبّع كالإسفنجة بماء الحداثة والديموقراطية بمشتقاتها كحرية التعبير والرأي والوقوف موقف المشكك بالجمهور والنخبة معاً لكنْ ذلك كله لا يصل إلى السؤال عن الهويّة.
تذكرتُ مئات الكتب وآلاف المقالات التي كتبها مفكرون عربٌ مختصون وغير مختصين، التي كانت تذهب مباشرة من دون لفّ ودوران إلى التشكيك بهويّة عربية أو إسلاميّة، مسائلة التراث حتى المقدّس منه، تاركة النقد السياسيّ ونقد آليات الحكم وممارساته طيّ النسيان لأنّ نقد الحكم والتشكيك به مخيف ومكلّف أكثر بكثير من نقد الهويّة.
المفارقة أن رفض حقّ اليهود في تأسيس كيانهم كان يأتي من متدينين يهود كطائفة “ناطورا كارتا”، فهم وحدهم كانوا يسألون السؤال الأهم: هل نحن على حق؟ في حين انشغلتْ جمهرة المثقفين والمفكرين بأسئلةٍ صغرى فصاروا هم وكتاباتهم تفصيلاً في هذه اللوحة الظالمة المظلمة. هنا وهناك، عندنا وعندهم كانت الحداثة هرباً متواصلاً من الجوهريّ الملحّ ومن الرهانات الحقيقية. نحن نتخذ من نقد الهويّة شغلة حداثوية نتلهى بها عن نقد أنظمة الحكم العربيّ الغارقة في الفساد والارتكاس السياسيّ والأخلاقي، وهم يتخذون من اكسسوارات نقد التفاصيل ستاراً يتخفون به من نقد هوية كيانهم المؤسس على أكبر ظلامة كونية شهدها العالم في تاريخه الحديث .. والقديم.
نشبههم تماماً لكن بشكل معكوس. كلا الفريقين يستثمران الحداثة لهواً ولعباً خوفاً من المخاطر وجلباً للمنافع.