صباح الأنباري.. الشريك المبدع
فاروق صبري
يشير تاريخ التجديد في المسرح إلى أسبقيَّة التنفيذ للتنظير، لكن مشروعي بدأ بالتنظير- نصه منشور في العديد من الصحف والمجلات والمواقع- ومن ثم ذهب صوب التطبيق عبر تجربتين استندتا على نص (أسئلة الجلاد والضحية) للكاتب العراقي صباح الأنباري الذي شاركني بثلاثة نصوص مبدعة مونودراميّة تعاقبيَّة (أسئلة الجلاد والضحية، القاص والقناص، القتيل والقاتلة)، وقبل أن أتحدث عن كيفية تنفيذ مشروعي عبر العرضين المسرحيين أريد القول إنه بعد نشري لنص التنظير كتب عنه مسرحيون وكتاب وباحثون عراقيون وعرب، ومع أهمية وحميميّة تلك الكتابات أقف هنا عند بعضها.
إذ يقول الباحث المصري الدكتور أبوالحسن سلام في بحث طويل عن المونودراما التعاقبيَّة: (هي مونودراما الحدث الواحد، المتباين فيما بين استعادته مرتين أو على جزئين، الجزء الأول من خلال أحد أطراف الصراع، والجزء الثاني يدّخر للطرف الثاني من الحدث، وهذا اللون من المونودراما يوازن بين عرضين لحدث درامي واحد من خلال طرفي الصراع؛ ليترك للمتلقي حق تقدير ما يعرض عليه، ومن ثمّ يضعه أمام الصورتين المستعادتين من خلال رؤيتين متناقضتين؛ تزعم كل منها أنها تعرض حقيقة ما حدث) ويضيف قائلاً: (هذا تجديد برأيي يعادل تجديد أسخيلوس لإضافة الشخصية الثانية)، وعن المشروع تحدث الكاتب العراقي المعروف علي الزيدي قائلاً: (يعاني جنس المونودراما الكثير من الخلل في بنيته وطريقة كتابته وعرضه على خشبة المسرح، وتحول في الأغلب من تجاربه على مستوى الكتابة والعرض معا إلى ثوابت من الصعب تجاوزها بسبب محدودية الفعل وآليات التعبير وسواها، مشروع الصديق الجميل فاروق صبري يحاول كسر هذه الثوابت من خلال تطوير آليَّة كتابة وعرض مسرحية المونودراما، وهو مشروع أجده مهماً ما دام يهدم الثابت باتجاه بناء ما هو جديد لمشروعه المثير للجدل مسرحياً)، ومن سوريا سجل الكاتب والناقد المسرحي عبدالفتاح قلعجي رأيه في نص المشروع التنظيري قائلاً: (هذا المشروع يُضفي حياة جديدة على المونودراما التقليديَّة وينقلها من دائرة العرض للحدث أو الشخصية إلى دائرة البحث في الحدث أو الشخصية.
ب - كما أنه – أي المشروع - يخفف مما تتهم به المونودراما بأنّها تقدم شخصية مريضة مأزومة، هذا إن أحسن معالجة النص. ت- يخفف من الملل الذي يشعر به المتفرّج حين حضوره بعض المونودرامات.
ث- يحقق دراما الصدمة بنقل المتفرّج فجأة من رتابة العرض إلى أفق جديد في عرض الموضوع أو الشخصية.
ج- إذا تم تطوير المشروع فإنه يمكن أن تنتقل «الدراما التعاقبيَّة» إلى مرحلة «الدراما التوليديَّة» بمعنى توالد الأفكار من بعضها بعضاً وتوالد موشوري أو تطويري للشخصية أو الشخصيات. وهذه المرحلة صعبة جداً ولكنها ممتعة).
وأختم هذه الوقفات مع المشروع عند رأي المخرج النيوزلندي ديفيد كنكتون حيث قال:
I am really intrigued with your endeavour to modify the format of Monodranew direction.The idea of viewing the same situation from the perspective of 2 different characters has real appeal. We always see situations from our own perspective which then becomes our absolute truth but when viewed from another persons perspective can be seen in a totally different light.I would really like to see you pursue this and see what eventuates from it. I totally endorse your endeavours.
David Coddington
Director South Seas Film
and TV School
مدير شركة المسرح الحقيقي
وترجمة ما قاله المخرج النيوزلندي: أنا مفتون حقاً بمحاولتك تعديل تنسيق اتجاه Monodranew. فكرة عرض نفس الموقف من منظور شخصيتين مختلفتين لها جاذبية حقيقية. نحن دائماً نرى المواقف من منظورنا الخاص والتي تصبح فيما بعد حقيقتنا المطلقة ولكن عندما يُنظر إليها من منظور شخص آخر يمكن رؤيتها من منظور مختلف تماماً، أود حقًا أن أراك تتابع هذا وترى ما سيحدث منه. أنا أؤيد تماماً مساعيك.
ومما لا شكَّ فيه أن مشروعي المونودرامي التعاقبي لا يتكئ على الفراغ ولا على التنظير التجريدي، إنه يستند على ميراث المعرفة التنويريّة والذي غامر منتجوه في صناعة الجديد، بل والتسابق في تجاوز التابوات والقواعد والأنماط وإنجاز رؤى واساليب وعوالم وفضاءات غير مسبوقة وبهذا السياق يؤكد المخرج المفكر قاسم محمد (الانتقال من فضاء مستهلك إلى فضاء إبداعي) ويستطرد في مكان آخر من كتابه (الدماغ والعلوم المجاورة المحاورة لفن الممثل) مسمياً الاستنساخ وتكرار الصور المسرحيّة بالموت وبرأيه التكرار (في الفن وفي المسرح إنما يقوم بتنفيذ وظيفة بينما الابتكاري بالتعبير الفني عن فكرة.. كتـاب الدماغ)، وفي تاريخ المسرح ومسيرته الطويلة الغنيّة نجد مبدعين حاولوا خلق بصمات خاصة وتأسيس تيارات ما زال البعض منها يتواصل ويتجدد من جيل إلى جيل ومن بلد إلى بلد آخر ولعل هذا الأمر جوهر الإبداع وهاجس ضروري يمتلكه المبدع المعرفي.
وفي أولى تجارب التنفيذ إخترت نص (أسئلة الجلاد والضحية) بعد دعوة الجمعية الثقافية العراقية الكندية لي عام 2016، بدأت الإتصالات مع إدارتها من أجل تهيئة الكادر الفني والممثلين وإمكانية توفير مكان للبروفات وتوقيت زمن العرض ولو بشكل أولي وبدأت قراءات للنص مع الممثلين والتي جرت عبر الشاشة الزرقاء، وكان هذا الأمر محاولة لتوظيف التكنولوجيا الأنترنيتية كخطوات أوليّة للبروفات انتقلت إلى شكل عملي بعد وصولي إلى تورنتو- ماسيسكا بعد أيّام قلائل داخل شقة سكنت فيها مع الممثلين غسان العزاوي في دور الجلاد وميثم صالح في دور الضحية، والشقة كانت في طابق 41 من البناية حيث تحول صالونها إلى فضاء ضيّق للبروفات لكنه هذا الضيق الجغرافي رأيته، لمسته وشعرت به سيكون عنصراً من عناصر تشكيل بصري للشخصيتين، الجلاد والضحية، كل منهما لها ضيقها السيكولوجي المتباين، وتوظيف هذا الضيق لإثارة الخوف حتى عند المتلقي ليس كحسٍّ تطهيريٍّ مثلما أراده أرسطو وإنما كفعل يدفع إلى التساؤلات ورمي حجارتها صوب ركود الوعي، وفي استراحة منها خرجت إلى الشرفة وناديت على الممثلين، جاءني الذي يمثل دور الجلّاد ولكن الذي يمثل دور الضحية اقترب ووجهه مصفر ويبدو عليه قلق غير عادي قلت له ما بك قال: أرجوك أنا ارتعب من الجلوس في هذه الشرفة المعلقة في السماء وحتى بعد رجوعنا للصالون ظلّ مرعوباً وبعد انتهاء الاستراحة ساد الهدوء وبدأنا البروفات حتى جاء دور الضحية وفي مشهد له يسمع فيه أصوات عمليات التعذيب وأصوات صراخ المعتقلين شعرت بأن رد فعل الممثل |الشخصية تجاه ما يحدث في محيط وداخل المشهد الذي يتواجد فيه لم يكن مناسباً أو صادقاً؛ لذا سحبت الممثل من يديه وبعنف إلى الشرفة، وقلت الآن أعد لي المشهد هنا وإذا به بعد لحظات من التوقف قد تحول إلى زوبعة رعب وقد استمرت تلك الزوبعة وبتدرجات أدائية مختلفة ومتباينة وفق ماهية مشاهد العرض في جميع أيام جنرال البروفة وثم العرض الذي كان على خشبة المسرح، مكان مختلف عن فضاء البروفات أي داخل شقتنا، فهنا مساحة ليست بالواسعة مكونات تقنياتها بسيطة وتوظيفات بصرياتها دالة وفي خلفيتها شاشتان منفصلتان، من سقفها تتدلى أرجوحة يجلس على قاعدتها الضيقة منيكان وتمتد منها سلاسل حديدية متنوعة الأشكال والأحجام لكنها توحي بالقبح والظلمة وتشير إلى ظلال بحكم الأضواء المركزة الآتية من عدد من البروجكتورات المتوزعة والموجودة في الصالة وعلى الخشبة وذلك عبر هندسية سينوغرافية دقيقة تُسهم هي الأخرى في خلق بؤر الخوف والاختناق والتي كانت فيها شخصيتا الجلاد والضحية تسردان حكاية العرض بطريقة مختلفة جسدياً ونفسياً وفي هذا السياق وبعد أن شاهد العرض تحدث الناقد المغربي الدكتور احمد بلخيري وذلك في بحث نقدي بجزأين، إذ قال: (فبينما كانت ملامح الشخصية المسرحية الأولى توحي بالصرامة، والقسوة، والقوة، وهي تخاطب الدمية؛ كانت ملامح الشخصية المسرحية الثانية، ونبراتها الصوتية، وأنفاسها، وحركاتها في البداية توحي بالخوف والارتباك/ البكاء)، نعم فحالة الاختلاف في السرد البصري للشخصيتين، الجلاد والضحية تجلّت عبر البحث وطرح التساؤلات ومقترحات الوصول إلى مشهديات جمالية وفكرية بدأت من أمكنة البروفات وإلى خشبة العرض والذي فيه حاولت أن أقدم الوجه المستور في شخصية الجلاد الذي يظهر أمام الناس والإعلام بأنّه قوي ولا أحد يستطيع منازعته أو الانتصار عليه، هذا الوجه المبطن تمكنا أنا والممثل غسان إلى إظهاره عبر أداء ساخر يوحي بالارتباك والخوف الذي تجسد منذ لحظات ظهور الجلاد في مكان شبه مظلم وفيه ظلال حيث الأضواء الخافتة مع إيقاعات الموسيقى لعبتا دوراً في شحن جرعات التعثر والخوف لشخصية الجلاد الذي كان يقاوم ضعفه وإرباكه بالغناء لأغاني فلكلورية معروفة ولكن بطريقة ساخرة إذ أبقيت على ألحانها وغيّرت بعضاً من كلماتها لتكون معبراً عن روحية الجلاد الدموية، لماذا غيّرت كلمات هذه الأغنية؟
غيرتها كي أقول إنّ الطغاة يسمّمون حياتنا اليوميّة وحتى أغنياتنا يمسخون جمالها ويفرغونها من لغة الحُب ويحشونها رصاصات كلماتهم في ألحان أغانٍ صارت جزءاً من حاضر وذاكرة الناس.