مراسلات جبران وماري هاسكل

ثقافة 2023/10/29
...

 ماريا بوبوفا

 ترجمة: عبود الجابري

أحب أن أصمت معك يا ماري.. «جبران» بعد مرور ما يقرب من قرن على وفاته، لا يزال الرسام والشاعر والفيلسوف اللبناني الأمريكي جبران خليل جبران (6 يناير 1883 - 10 أبريل 1931) واحدا من أكثر أصوات الحقيقة والسمو المحبوبة عالميا. لكن جبران لم يكن ليوجد كما نعرفه ونحبه لولا فاعلة الخير وراعية الفنون ماري إليزابيث هاسكل - بطلته الكبرى، ومعاونته المتكررة، ومحبوبته غير العادية.

التقى هاسكل وجبران في 10 مايو 1904 في استوديو أحد الأصدقاء. كان في الحادية والعشرين وهي في الحادية والثلاثين تقريبًا. أعجبت هاسكل بفنه، وسرعان ما عرضت عليه أن ترسله على نفقتها إلى باريس لدراسة الرسم وتخصص له مبلغاً قدره 75 دولارًا شهريًا كنفقات معيشة، وحظي هذا العرض بموافقة جبران.  في رسالة إلى صديق كتبها قبل وقت قصير من مغادرته إلى باريس عام 1908، وصف جبران هاسكل بأنّها “الملاك الذي يقودني نحو مستقبل رائع ويمهّد لي الطريق إلى النجاح الفكري والمالي”. وبعد وقت قصير من وصوله، كتب: “سيأتي اليوم الذي سأتمكن فيه من القول: لقد أصبحت فنانًا من خلال ماري هاسكل”.

لكن يد هاسكل المبسوطة كرماً، تفرعت من قلب مفتوح بنفس القدر، من لطف أكبر سرعان ما أصبح جبران مفتونًا به، فأصبح ينظر إليها على أنها أكثر من مجرد مُحسنة - روح طيبة، وامرأة ذات حنان غير عادي، وفوق كل شيء، شخص يرغب في النزول إلى أعمق خنادق نفسيته والصعود إلى أعلى قممها من أجل فهمه. كانت علاقته بها تتحدى التصنيف واحتواء التسميات الجاهزة، لكن هناك مُسَلَّمَة واحدة لا جدال فيها تشع من الثراء والتعقيد المذهل لتشابكهما العاطفي الذي دام عقودًا من الزمن.

في إحدى رسائله الأولى إلى هاسكل من باريس، يصور جبران ما قد يكون أعظم هدية للحب، مهما كانت طبيعته - هدية أن يراه الآخر على حقيقته:

“عندما أكون غير سعيد، عزيزتي ماري، أقرأ رسائلك. عندما يطغى الضباب على “الأنا” بداخلي، أستلُّ حرفين أو ثلاثة من الصندوق الصغير وأعيد قراءتها. تذكرني بذاتي الحقيقية، تجعلني أتغاضى عن كل ما ليس عالياً وجميلاً في الحياة”.

وعلى مدار العام التالي، تكثفت علاقتهما. تسجل هاسكل التسلسل المحوري للأحداث في يومياتها في اليوم السابق لعيد ميلادها السابع والثلاثين عام 1910:

“قضى خليل المساء بالقرب مني. أخبرني أنه يحبني وسيتزوجني إذا استطاع، لكنني قلت أن عمري يجعل هذا الأمر غير وارد”.

قال: “ماري، كلما حاولت الاقتراب منك في الكلام، تطيرين إلى مناطق نائية لا يمكن الوصول إليها”.

 قلت: “لكنني سأخذك معي”. وقلت أنني أريد أن أحافظ على صداقتنا دائمة، وأخشى أن أفسد صداقة جيدة من أجل علاقة حب سيئة. 

لكن في الربيع التالي، اتخذت علاقتهما منعطفها الأكثر تميزًا وتمييزًا - القرار، الذي كان جذريًا تمامًا في ذلك الوقت، هو عدم الزواج بعد كل شيء، بل البقاء في التوأمة الأكثر حميمية في الحياة، وقررت ماري أن تتبع “الإصبع الأخيرة لله” في إشارة إلى صواب قرارها. «كنت أعلم دائمًا أن علاقتنا ستدوم”، هذا ما قالته هاسكل لاحقًا في القرار، لذلك “أردت استمرارية العمل الجماعي الواعي”، هذه الفكرة، الناشئة عن الشهامة الهائلة لحبها غير المتملك، ستقود جبران في النهاية إلى الخلود المعافى للعلاقة الصحيحة.بعد شهر من قرار عدم الزواج، يوجه جبران رسالة إلى هاسكل من نيويورك:

“عدتُ للتو من المتحف. آه كم أريد أن أرى هذه الأشياء الجميلة معك. يجب أن نرى هذه الأشياء معًا يومًا ما. أشعر بالوحدة الشديدة عندما أقف وحدي أمام عمل فني عظيم. حتى في الجنة، يجب على المرء أن يكون لديه رفيق يحبه لكي يستمتع بها بشكل كامل”.

مع مرور الأشهر، تتوالى رسائله أكثر فأكثر مفعمة بالحيوية من خلال هذا المزيج غير المألوف من شوق الافتتان المضطرب والعمل الجماعي القوي لتوأمة لا يشوبها القلق، وينبعث حنين هادئٌ صاخب من أعماق كيانه، إلى جانب تصريحاته العاطفية، يكتب لها في أوائل يناير 1912:

“الآن سأقول ليلة سعيدة، مثل أي وقت آخر. أقبلك ثم أقول تصبحين على خير ثم أفتح الباب ثم أخرج إلى الشوارع بقلب ممتلئ وروح جائعة. لكنني دائمًا ما أعود مرة أخرى لأقبلك وأقول لك ليلة سعيدة، وأفتح الباب وأخرج إلى الشارع بروح جائعة وقلب كامل”.

بنفس القدر من العاطفة الشعرية، تكتب له هاسكل في الشهر التالي:

“أعطاني الله قلبه لكي أحبك به. لقد طلبت ذلك عندما وجدت أن حجمي صغير جدًا، وهو يحملك حقًا، ويترك لك مجالًا للنمو”.

في الربيع، كتبت هاسكل إلى جبران في نيويورك، معلنةً حبها غير الأناني بالتوازي مع شوقها العارم في رسالة يمكن أن تكون قصيدة:

“ماذا تكتب – وكيف تسير الأمور؟ وما الذي تفكر فيه – وكيف تدعه يذهب؟ وماذا تريد أن تتحدث معي عنه؟ – وكيف يتلاشى؟

ولماذا لا يبلغ طول ذراعيك ست ساعات للوصول إلى بوسطن؟

ومتى تأتيني في المنام فتجعل الليل أحلى من الليل؟”

وتضيف مع حساسية تجاه إتقان جبران المتزايد للغة الإنجليزية:

“إن ما تكتبه يشبه التجانس العظيم في الموسيقى العظيمة. أنت تعرف استخدام دقة الكلمة تلك في الموسيقى، وجميلة جدًا. - وهو مثل المصالحة في الحياة. وهل تعلم أن المصالحة تتم بهذه الطريقة؟ بالنسبة لي هي واحدة من أعمق وأكمل كلماتنا”.

بعد بضعة أشهر، بعد أن تجاوز ركوده الإبداعي والروحي، حاول جبران أن يضع كلمات حول ضخامة امتنانه لهذه الهبة الأسمى المتمثلة في أن يُرى ويُحب في كلّيته:

“أتمنى أن أخبرك، يا ماري الحبيبة، ما تعنيه رسائلك بالنسبة لي. إنها تخلق روحًا في روحي. قرأتها كرسائل من الحياة. بطريقة ما، تصل دائمًا عندما أكون في أمس الحاجة إليها، وهي دائمًا تجلب ذلك العنصر الذي يجعلنا نرغب في المزيد من الأيام والمزيد من الليالي 

والمزيد من الحياة. كلما كان قلبي مكشوفًا ومرتعشًا، أشعر بالحاجة الماسة إلى أن يخبرني أحد أن هناك غدًا لكل القلوب العارية والمرتعشة، وأنت تفعلين ذلك دائمًا، يا ماري”. قبل أربع سنوات من النشر الأمريكي لتحفة جبران “المجنون”، والتي كتب فيها: “لقد وجدت حرية الوحدة والأمان فيمن يفهمونني، فالأشخاص الذين يفهموننا يستعبدون شيئًا ما فينا”، ورأى أن هاسكل هي الوحيدة التي  تعارض تلك القناعة، فكتب لها في صيف عام 1914:

“لديك موهبة الفهم العظيمة، يا ماري الحبيبة. أنت واهبة الحياة يا ماري. أنت مثل الروح العظيمة، التي تسكن الإنسان ليس فقط لتشاركه حياته، بل لتضيف إليها. معرفتي بك هي أعظم شيء في أيامي وليالي، معجزة خارجة تمامًا عن النظام الطبيعي للأشياء. لقد اعتقدت دائمًا، مع الجنون الذي يرافقني، أن أولئك الذين يفهموننا يستعبدون شيئًا ما فينا. الأمر ليس كذلك معك. أن فهمك لي هو الحرية الأكثر سلمية التي عرفتها. وفي آخر ساعتين من زيارتك الأخيرة أخذت قلبي بيدك وعثرت فيه على بقعة سوداء، تلك البقعة التي محوتها بيدك إلى الأبد، لأعيش معك بلا قيود على الإطلاق”.

ماريا بوبوفا:

 كاتبة بلغارية تقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

المصدر:  مجلة الهامشي

  The Marginalian