الودُّ وقصَّة التّوت الأحمر

الصفحة الاخيرة 2023/10/29
...

محمد غازي الأخرس

من المفردات التي باضت في قلب اللغة العربيَّة وفقست مفردة "ودّ" ذات البُعد الميثيولوجي الساحر. و"ودّ" هذا إله عبده العرب الجاهليون وتسمّوا به، وأشهر من وردنا من المتسمّين به أب عمرو، ود العامري، الذي صرعه أبو الحسن (ع) في وقعة الخندق، والودود من أسماء الله الحسنى، وكان الشاعر العربي قديماً قد خاطب الإله (ودّا) بقوله: حياك ودٌّ فإنا لا يحلّ لنا .. لهو النساء وإن الدين قد عزما، ويستشف من هذا أن وظيفة "ود" في متخيل العرب هو غرس الحب والغرام في قلوب البشر، لذا استطاع أن يكوّن، في المتخيل، دائرة من الدلالات تدور حول معنى التمني والمحبة والعشق. يقول العرب وددتُ كذا وتوادد القوم أي أحبَّ بعضهم بعضاً، ويقول العراقي "ودي أفعل كذا"، وفي الشعر الشعبي، ورد الود والوداد كثيراً، والحاج زاير يقول مثلاً: يالواعدتني أخافن يختلف وعداك.. ويضيع ذاك التعب للواددك وعداك.. حاشاك چف اللثم ما لامسك وعداك.. وإلى آخر الموال الجميل .

في فقه اللغة، يرد الباحثون المفردة إلى أصل بابلي كما أسلفنا، فعند البابليين، تعد (الدودو) شجرة الحب، وترادف في العبريّة مفردة "دود" التي تعني الحبيب. وفي ذاكرة العرب أن صنم الإله الذي يدعى "ودّ"، كان أحضره عمرو بن لحي ضمن الأصنام التي أحضرها، أما من البلقاء في الأردن أو من هيت في العراق، وفي الحالتين، ثمة أصل رافديني لـ"ود"، بغض النظر عن كونه تجسيداً لشجرة الحب (الدودو) أو تمثيلاً لما تدل عليه شجرة التوت التي ارتبطت أيضاً في متخيل بلاد الرافدين بالحب والغرام. والتوت هو التكي، ويتوفر في العراق بثلاثة أنواع؛ التكي الأحمر والأبيض والأسود، وشجرته كبيرة تتغذى عليها دودة القز. لهذا أظن أن شجرة (الدودو) عند البابليين هي نفسها شجرة التكي لارتباطها بدودة القز. 

أنثربولوجياً، ترد أسطورة التوت الأحمر ضمن الأساطير اليونانية عبر حكاية رائعة مفادها أن هذه الشجرة تشكلت من دماء عاشقين هما بيراموس وثيزبي. وجرت القصة في بابل خلال حكم الملكة سميرأميس إذ قيل إن ثمار التوت كانت بيضاء ناصعة في البداية، لكن لونها تغير وأصبح أحمر قانياً بسبب دماء بيراموس وثيزبي. كان العاشقان مغرمين ببعضهما، لكن أسرتيهما رفضتا ان يقترنا بالزواج، فظلا يتناجيان سرّاً. وفي ذات يوم، بلغ الشوق بهما مداهُ فتواعدا للقاء قرب مقام مقدس لأفروديت، تحت شجرة توت مزهرة ذات ثمار بيضاء تجاور الينبوع العذب. وصلت ثيزبي أولاً، فرأت لبوة تشرب من النبع وفمها يقطر بدم فريسة افترستها للتو، فهربت العاشقة لتختبئ في كهف مظلم، وفي أثناء هربها سقط نقابها وهي تجري فتلطخ بالدماء التي في فم اللبوة. بعد حين، وصل بيراموس إلى المكان فرأى نقاب حبيبته ملطخاً بالدماء، ثم رأى آثار أقدام اللبوة قريباً منه، فأيقن أنّ اللبوة افترست ثيزبي. حينئذٍ، أمسك بالنقاب وانتحب تحت شجرة التوت، ثم لم يصبر حتى غمد خنجره بصدره ليقتل نفسه. بعد حين، خرجت الحبيبة من مخبئها ووصلت إلى الشجرة، فوجدت حبيبها مرمياً على الأرض وقد خضبها بدمه، فانتزعت الخنجر من صدره وغرزته في صدرها لتموت. ومن دماء هذين العاشقين ارتوت شجرة التوت البيضاء، لتتحول، منذ تلك اللحظة، إلى رمز للعشق، واستحالت ثمارها من التكي الأبيض إلى ثمار حمراء قانية، ثم تحول اللون الأحمر عموماً إلى رمز للعشق والغرام. وللموضوع بقية، فانتظروا مع "مودتي"، التي تعرفونها.