حرب «وائل الدحدوح»

آراء 2023/10/30
...

حمزة مصطفى

حين “طوى الجزيرة” خبر استشهاد زوجة وائل الدحدوح مراسل قناة “الجزيرة” وولديه لم يفزع مثل المتنبي بآماله إلى الكذب, كما لم يشرق بالدمع مثل المتنبي.
كان كل شيء أمامه وخلفه وبين يديه وعلى مسافة من “زووم” كاميرته، يعلن حربا على كل شيء عنوانها الدم.
ولا وقت لاختلاط الدم بالدموع.
خبر الموت المتوقع وصل إلى وائل الدحدوح على الهواء مباشرة, كان يغطي, على الهواء مباشرة, واقعة الحرب المفتوحة على احتمال واحد سقوط المزيد من الضحايا، وفي مقدمتهم الأطفال.
هذا هو تاريخ حرب المدن الذي لا يفرق بين جنرال أربع نجوم، وبين طفل بالقماط يتلقى الصواريخ، مثلما يلقم ثدي أمه الذي جف منه الحليب.
تلقى وائل الخبر المتوقع في كل ثانية من عمر الحرب, حربه هو لا حرب الآخرين المفتوحة على كل التسويات الممكنة وغير الممكنة.
وائل لم يصعق للخبر.
المشاهد هو الذي صعقه الخبر، الذي قد يكون تلقاه في المنزل أمام الشاشة, أو في المقهى من هاتفه المحمول، بينما يتناول مثل سرحان بشارة سرحان السجين الفلسطيني الأطول في التاريخ قاتل روبيرت كنيدي.
سرحان بلغة محمود درويش شرب القهوة في الكافتيريا، ومن ثم إنسل ليطعن كيندي مرشح الرئاسة الأميركية آنذاك.
 كان وائل هو الوحيد المهيأ لتلقي مثل هذا الخبر بكل ما يحمله من دهشة, بلا دهشة.
 لايهم إن كان صاعقا أو مصعوقا, يهز الجبال أو يطوي كل المسافات شارقا بالدمع أو كاد الدمع يشرق به.
وائل لم يذرف الدموع. الدموع هي التي ذرفته.
كان وائل “في جفن الردى” ببحث عن خبر آخر يغطيه.
لا وقت لديه للعزاء ولا لكلمات الرثاء. كانت الكلمات هي التي تكتب وائل وهو يشرح مجريات الحرب, فلقد سقط بعد زوجته وولديه عشرات الشهداء. الكاميرا التي توقفت بينما وائل يصدح بالكلمات، شارحا مسار العمليات توثق ما يجري بلا إضاءة.
 لا تعرف إن كانت تنقل وائل إلى التاريخ أم تنقل عن وائل تاريخا يكتبه هو، متفوقا على الدم والحبر.
لا كلمات تكفي لتوثيق الصورة ولا تاريخ يجرؤ على التنصل عن مسؤوليته في أسر لحظة سوف تتحول إلى سجل مضيء في صفحاته اللاحقة.
حتى السماء التي استقبلت جثامين شهداء وائل الثلاثة مسحت من مآقيهم ما تبقي من دموع قبل لحظة الموت، التي صارت حياة في كل بقاع فلسطين من 48 حتى اليوم مرورا بكل النكبات والنكسات والمجازر والخيانات.
أحالتها لحظة الوداع الأخير بين الكاميرا والهواء صبرا وصمودا وعزة وفخرا لكل مقابر الأرض، التي تحتضن كل شهداء العالم الذين قضوا في قضايا عادلة، مثل القضيَّة التي دافع عنها حتى الشهادة ولا يزال وائل الدحدوح وأولاده وزوجته. لا وقت لوائل الدحدوح في إقامة مجالس العزاء واستقبال المعزين ونصب السرادقات، وصب القهوة وتلاوة الفاتحة. مجلس وائل مفتوح بين أزيز الرصاص والكاميرات والتغطيات المفتوحة. يتلو الفاتحة وما تيسر له من سور القرآن الكريم كلما سكتت الصواريخ ولو للحظات، ومن ثم يواصل الكلام والمهمة معا.
 لم يعد وائل يصف المشهد.
صار هو المشهد. لم يعد يمنح “الجزيرة” خبرا يمكن أن يكون سبقا صحفيا. صار وائل هو الخبر وهو السبق. صار وائل مثل أحمد الزعتر في قصيدة محمود درويش. صار وائل الزعتر وجنين وعسقلان وكل دروب غزة وأزقتها وأنفاقها.. “ ليدين من حَجَر و زعترْهذا النشيدُ.. لـ “وائل” المنسيّ بين فراشتين”.. مَضَتِ الغيومُ وشرّدتني..ورمت معاطفها الجبالُ و خبّأتني.. نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد و كانت السنةُ انفصال البحر عن مدن الرماد وكنتُ وحدي.. ثم وحدي.. آه يا وحدي ؟
و”وائل”كان اغترابَ البحر بين رصاصتين.. مُخيّما ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين.. لا تسرقوه من السنونو.. لا تأخذوه من الندى.. كتبت مراثيها العيونُ.. وتركت قلبي للصدى.. لا تسرقوه من الأبدْ.. وتبعثروه على الصليب.. فهو الخريطةُ والجسد.. وهو اشتعال العندليب.. أخي “وائل” وأنت العبد والمعبود والمعبد.. متى تشهدْ.. متى تشهدْ.. متى تشهدْ؟”.