المهرجانات المسرحيَّة.. مديات التنوع الثقافي

ثقافة 2023/10/31
...

  د. سافرة ناجي

ينفرد المحمول الفكري للمهرجانات المسرحيَّة عن أي فعل ثقافي مجاور له. لأنه ينفتح على كل العلوم والفنون، لذلك تجده يحقق معادلة ثقافية كبرى كونه يهضم كل العلوم والفنون في فعالياته الجماليَّة. وهذا ما نراه ماثلا بقوة في فعاليات المهرجانات المسرحيَّة على حد سواء. لأن لكل مهرجان فلسفته الجماليَّة، التي تمكنه من تحقيق هدفه المعرفي بأبعاده الثقافية، التي تحقق مبتغاه المضمر في تغيير مدركات المعرفة والإعلان عن مدركات جديدة تحقق فعل الابتكار وديمومة السؤال. بمعنى آخر أنه مختبر جمالي يتخذ من صيغة العرض أداة استقراء واستنتاج، التي يتشارك في تأسيسها مع الجمهور. وعليه نقول إن المهرجانات المسرحيَّة هي الفضاء الأمثل لتسويق خطابه التنويري، الذي يشكل دينامية هذا الفكر في إثارة التساؤلات المغاير التي تنتجها ثقافة عن أخرى بحسب متغيراتها الواقعية.

لذلك تجد في المهرجانات المسرحيَّة فلسفة الاختلاف الجمالي  أولا، والتنوع في اساليب الابتكار على مستوى الأداء ومخرجاته البصرية ثانيا، وغياب الخطوط الحمراء في اسلوبية التقديم وتفاعل استقبالها ثالثا. فضلا عن مضمراته التنويرية هي التي تشكل حافز التحاور معها، وإعادة إنتاج مفاهيمها، وهذا يحقق  فاعلية التبادل الثقافي الذي قطعا ستؤطر مهارات تفكير جديدة ترتقي بالذائقة الجماليَّة للمحترف الجمالي والمتلقي المسرحي في آن واحد.

ففضاء المهرجانات المسرحيَّة تجتمع فيها كل الرؤى الدرامية للثقافات الإنسانية ومقترباتها الفكرية، سواء في الثقافة الشرقية أو الغربية، وهذا  الحضور الثقافي المغاير الذي تبغيه فلسفة أي مهرجان ومنها مهرجان بغداد تمثل مقتربا جماليا يمكن من تحقيق كيمياء التواصل بينها وبين الجمهور المسرحي ذي التعدد الثقافي، سواء على مستوى ضيوف المهرجان أو الجمهور العام، بوصفه الهدف الأسمى لأي مهرجان، لذلك حضوره لفعاليات المهرجان يمثل معيار نجاح أو فشل، مما يؤكد أن المهرجان المسرحي يحقق الكثير من الأهداف أولها أنه يزيح مفهوم العروض النخبوية أو الجماهيرية، محققا المعادلة الجماليَّة في قدرته على أن يكون النسق الفكري والثقافي، الذي يشكل فضاء تفاعل وتواصل ثقافي، ويزيج فكرة الجدل حول إثارة التساؤل هل المسرح فكر نخبوي خالص، أم أنه فكر جماهيري غائص في تراتبية البنية الاجتماعيَّة لأي ثقافة.  

ومن أهم الاهدف التي يسعى إليها أي مهرجان هو فعل التبادل الجمالي الذي ينفتح على حوار الثقافات مما يغيير من مدركات الذائقة الجماليَّة  لجمهور التلقي الذي يشاهد رؤى مغايرة فيتحصل جمهور المسرح على مهارات جمالية من شأنها أن ترتقي بذائقته الجماليَّة، لا سيما المتلقي المسرحي المتخصص الذي يشتغل في المسرح. وهذا الانفتاح على أكثر من نسق يبعث بأكثر من رسالة فكرية وثقافية، ولا سيما عندما يعقد في بيئة ثقافية تعيش تحت وطأة الحروب والتعنيف والانغلاق على تقاليد فكر ذات إيقاع أحادي مثل بيئتنا العربية. المهرجان المسرحي يصارع هذه الأحادية بتعدد أنساق الهويات الثقافية، التي تتفاعل في مختبره الجمالي.

 ولهذا نقول إن أي مهرجان مسرحي هو رد جمالي يزيح من هيمنة الانغلاق على أساليب تتكرر ايقاعها الأدائي مما يعطل فعل التفكير. لهذا نرى أن المهرجانات المسرحيَّة، هي فضاء لتسويق كل ما هو جديد، وفي راينا أن جديد الابتكار المسرحي هو قدرة الاستجابة لمتغيرات الواقع ومحاكاتها برؤى جديدة، وهذا الابتكار الثقافي هو الفاعل في تحقيق التبادل الثقافي، الذي سيغير من منظومة التفكير ابتداءً من المتلقي المتخصص العارف بأسرار اللعبة المسرحيَّة إلى المتلقي العام، لذلك من أولويات أي مهرجان هو التنوع والتباين الجمالي على مستوى العروض المشاركة والجمهور، ما يؤكد التفاعل الثقافي بين الرؤى المسرحيَّة المتباينة ثقافيا، التي تفرز تنوعا في متعة المشاهدة كل بحسب مدركات التلقي لفعاليات المهرجان، مما يؤكد الجدوى الثقافية للمهرجان، لذلك تسعى كل المدن الحضارية عبر مؤسساتها الثقافية المتخصصة إلى اقامة المهرجانات المسرحيَّة، التي تسعى إلى أن تستجلب كل الرؤى والتجارب المسرحيَّة الابداعية  وتحاورها ثقافيا وتؤطر سمات ابتكارها المسرحي. أو حتى العروض التي لم ترتقِ لفعل الابتكار، تؤشر ملمحا لفرز رؤى تحفيز لها. وأن أي مهرجان لا يحقق هدفه في التنوع الثقافي وإثارة جدلية الاختلاف، لا يمكن له أن يحقق التبادل الثقافي بوصفه معيار فلسفة وهدف أي المهرجان، لا سيما في الانفتاح على راهن الخطاب المسرحي وتحولاتها الجماليَّة ومديات الادراك لإشكالياته، التي تحاصر إنسان اليوم سياسيا واقتصاديا وثقافيا. والتعريف بالثقافات المجاورة للثقافة للثقافة التي تقيم المهرجان المسرحي.