السيف والجرح.. سيرةُ كتاب

ثقافة 2023/10/31
...

 صالح رحيم 


في جلسةٍ ودية مع الكاتب العراقي نعيم شريف، طرحت عليه سؤالاً يتعلق بكتابة سيرته الذاتية، خصوصاً وأنه سجينٌ سياسيٌّ لخمسة أعوامٍ في سجن أبي غريب، وقد حكم بالإعدام، ثم نجا. كان رده فيه شيء من الغرابة، قال بأنه لا يستطيع الاقتراب من سيرته، أو الحديث عنها. لأنها تمثل جرحاً في روحه قد تكون فكرة الاقتراب منه استمراراً للنزيف لا العكس. بقي رده عالقاً في ذهني، وحين اتفقت معه على جمع السيف والجرح، وإعداده، اقترحت أن يكون بأربع أبواب، وأن نضع لكل بابٍ عنواناً يتناسب وثيمته. وحين عنونتُ البابَ الأول بـ “سيرة ذاتية لن تكتمل” قال لي: لماذا لن تكتمل؟ وإذا ما أردنا أن نستعير تعبير فريدريك نيتشه، فإن كل ما ورد في الكتاب هو شذرة من سيرة ذاتية، ولا أظنها تكتمل. بصفةِ كونها تتوالد في أذهان ولّادة. الكتابة عند نعيم شريف تتخذ شكلَ المحنة بالنسبة له، في كل نصٍّ جديدٍ يقدم لقارئه درساً في الحذر والرصانة والتأني. إنه كاتبٌ صعب المراس، لا يرضى عن نصه بسهولة، مسكونٌ بهاجس الجمال والمعرفة، فضلاً عن حرصه على الضمير بواعز أخلاقي يدفعه شرفُ الكاتب إليه. فترى على طول الكتاب تداخلاً بينَ ما هو جمالي ومعرفي وأخلاقي. إنه كاتبٌ مسكونٌ بالجمالِ وحده، وفي صيغته الخالصة. يضعُ نصب عينه القارئَ دائماً، حريصٌ كل الحرص، على اقتراح “سرديةٍ بديلةٍ” -بلغة جورج صليبا- تكشف له الوجه المخفي من الحكاية، أي حكاية كانت. وبالحرص ذاته، في أكثر من موضعٍ يتناولُ مفهوم المثقفِ، بالنقدِ تارةً كاشفاً ماله وما عليه، وبرصد تحولاته التاريخية وصولاً إلى انحطاطه تارة أخرى، من قبل السلطة بمختلف تحولاتها هي الأخرى. إنه سيرةٌ للسيف والجرح، ويمكنك عزيزي القارئ، أن تلاحظَ الأمانة الفكرية لدى الكاتب، أمانةً من نوعٍ آخر. إنه يقدم في المقالة الثانية من الباب الأول، والتي عنوانها (حيدر سعدون في الطريق إلى قاطع الإعدام) اعتذاراً سأورده كما هو “المعذرة من الشهداء والقراء، فقد نبهني الصديق ورفيقُ رحلة قاطع الإعدام. العزيز ضياء العبودي، إلى أن عدد المعدومين هو خمسةَ عشر شهيداً وليسوا ثمانية كما أوردت أنا ذلك خطأً” ثم يزودنا بقائمة بأسماء المعدومين من رفاقه، يختم بها مقالته. ولمن يتفحص النص جيداً، وينظر له من زاوية أخرى، فإن الاعتذار الذي قدمه الكاتب، صفعةٌ أخلاقيةٌ للضمير، وسخرية لاذعة من ذاكرة عودتها السلطة على النسيان. وفي مقالةٍ له بعنوان (المساحة التي لن يصلها أحد) وردت في الباب الثاني. يقول “ثمة مساحةٌ خاصة في الروح لا يصلها سلطانٌ أو مال أو قهر، إنها حيّز الذات، بقعتها غير الملوّثة» إلى هذه المساحةِ بالذات، يوجه الكاتبُ نضاله في الكتابة، مهما كانت روحُ المرءِ مشوهة أو مغتصبة، فإن مساحةً جوّانية لا يصلها إلا ما هو خاص وجوهري، تتعاطى وتتفاعل معه بكل أريحية، إنها مساحة الرهان الرابح، الذي يثق الكاتب من حيازته في النهاية. جديرٌ بالذكرِ أنَّ الكتابَ، صدرَ عن دارِ قناديل للنشر والتوزيع في بغداد، بدايةَ العام الحالي، بواقعِ أربعمئة وتسعة وستين صفحة، حوى أربعةَ أبواب، جاءَ البابُ الأول منه بعنوان “شظايا من سيرة لن تكتمل” فيما الباب الثاني بعنوان “قفزةٌ فوق الأجناس” أما الباب الثالث فعنوانه “فرشاةٌ على خد المدى” وقد ورد الباب الرابع والأخير تحت عنوان “الزمن الدائري لسيرة الألم”. أربعُ أبوابٍ تشكل مزيجاً متجانساً من الخبرة في الكتابة والحياة والفن. 

كلما فتَحَ القارئ باباً تكون حاجة القارئ إلى الجمال أشد، كمن يتجول في متحفٍ فنّي، عبر قراءات فاحصة في اللوحة والصورة الفوتوغرافية، تكاد تتفوق على اللوحة أو الصورة ذاتها. قد يكون انحيازاً مني، لكنه انحيازٌ لا يحول بين القراءة والأثر، وتبعاً لنوع القراءة، يكون أثرها مرتبطاً بالذاكرة، وعالقاً في روح القارئ، قراءةٌ تملك القدرة على استشراف الجمال الكامنِ في الأشياء التي نسيناها، تجربة تحفر  بالحواس والعواطف والتفكير. كانت هذه التجربة على الصعيد الشخصي، بمثابة حسن ظنٍّ كبيرٍ، وقبل ذلك، كانت درساً ثقافياً كبيراً، من كاتبٍ لا أخفي إعجابي بلغته الرشيقة وخفة سرده الأحداث والانسيابية العجيبة، التي كانت دافعاً هائلاً لإكمال الكتاب خلال مدة زمنية لم تتجاوز الشهرين. كاتبٌ أعرف مدى معرفته وعمق ثقافته وسعة اطلاعه، أن أجمع وأعدّ كتاباً لمثله، فتلك هي أقصى المباهج.