شعرية المايكروقصة في {يموتون ولا يموت}

ثقافة 2023/10/31
...

 د. كريم شغيدل

يتميز مجيد حنون عن أقرانه بكونه لم يكتب القصة القصيرة جداً من باب التنويع في أنماط السرد، وإنما سعى لتكريسها جنساً أساسيا في مشغله القصصي، فهو أيضاً روائي وله مجموعات قصص قصيرة، وقصص أطفال ومسرحية بعنوان (الملك في عزلته)، لكن مجموعاته في القصة القصيرة جداً بلغت تسع مجموعات، وذلك الكم مقارنة بعدد رواياته ومجموعاته القصصية إنما يدل على  اختياره القصدي لتكريس هذا النمط بتنويعات أسلوبيَّة ترسخ أدبيَّة الجنس وتفصح عن فلسفته في اختزال رسالته السردية بومضات ذات مساحات مفتوحة للتأويل.

لذلك يمكن اتخاذه أنموذجاً للبحث في شعرية هذا النمط القصصي، منطلقين من تعريفات تدوروف ومداخلاته الفكرية والنقدية إذ “ يدل مصطلح “ الشعرية” كما انتقل إلينا تقليدياً أولاً كل النظريات التي تدرس الأدب من الداخل، ويطبق ثانياً على الاختيار الذي يرضاه المؤلف من الإمكانيات الأدبية (من قبيل: اختياره للموضوعات، ونمط التأليف، والأسلوب... إلخ)، وفي هذا السياق نتحدث مثلاً عن شعرية” فيكتور هيكو” وثالثاً يحيل هذا المصطلح على القواعد المعيارية من قبل مدرسة أدبية معينة..” كما ورد في نظرية الأجناس، وقد انطوت تجربة حنون مجيد في القصة القصيرة جداً (المايكروقصة) على إمكانيات الكتابة الأدبية من أسلوب برقي بحسب تعبير سلامة موسى و(نكهة سردية) إذ لا توجد أبنية سردية أو حبكات معقدة، إلى جانب وجهة النظر التي تتسرب من طيات التهكم والسخرية والدعابة والحزن والموقف من الحياة في أوجاعها ومسراتها، وفي تناوله لقضايا الإنسان والوجود، كما يقول عبد الواحد محمد في مقدمته لمجموعة (يموتون ولا يموت) لحنون مجيد التي احتوت على (81) إحدى وثمانين قصة تراوحت شخصياتها بين حيوانية وإنسانية، وهذه السمة، أعني توظيف الحيوانات والحشرات تكاد تكون ميزة سردية في تجربته، فأولى القصص بعنوان (زجاج) بنيت فكرتها على مصير حشرة (ذبابة وربما فراشة أو بعوضة):

« حينما فتح السائق زجاج نافذته ليلقي بسيجارته على الأرض، وقبل أن يغلقها دخلت. كان الدخان الخانق ما يزال يملأ فضاء السيارة فاضطربت.. هامت بأجنحتها الرقيقة هنا وهناك، رأت فضاءها الجميل يمتد أمامها، غير أنها لم تستطع النفاذ إليه..

لم تدرك “الهائمة الغجرية” أن ما يفصل بينها وبين عالمها الرحب زجاج.”(ص 15) 

 ربما تتحدث هذه القصة عن حرية الكائن، أو عن عدم إدراكه لما يحول بينه وبين حريته، أو عن الصدفة أو القدر الذي يجعل الكائن من دون وعي أو قصد يغادر عالمه الرحب ليدخل في دهاليز الخوف والقمع، ثمة بناء سردي مكاني بين فضائين، فضاء خارجي شاسع وآخر داخلي ضيق تمثله السيارة، هواء طليق في الخارج، مقابل بقايا دخان في الداخل، والفاصل بينهما زجاج، أي أن الحبيس يرى عالمه ويتتبع امتداده لكن من دون جدوى، تماماً كمصير الأنسان في عصرنا الحالي الذي غادر عالم الطبيعة إلى عالم التكنولوجيا وبقي ينظر لحريته من خلال متاريسها أو واجهاتها أو شاشاتها، فالنص قابل لمختلف التأويلات على الرغم من كونه مسرودة ذات حبكة بسيطة وبناء سلس ولغة تعبيرية خالية من التعقيدات التركيبية والمجازات المصطنعة، على أن وصف الحشرة بـ (الغجرية الهائمة) يعد انزياحاً شعرياً في الوصف أو كناية حذف طرفاها لتصبح استعارة، لا تخلو من تهكم مقصود، ونرى أن كل هذه المعطيات التي يمكن للبحث أن يسهب بتأويلها قد منحت النص شعريته، وفي القصة الثانية من المجموعة ذاتها كأن القاص يصنع رداً على القصة الأولى أو يضع مقابلاً رمزياً لمنح الآخر عالماً رحباً، وذلك من خلال قصة(من أجل عالم أرحب):

« أرسل إليها رسالته على رقمه الجديد الذي سبق له ان أرسل إليها عليه رسالة واحدة: صباح الخير، وأطيب الأماني بأيام هانئة. لم تمض دقيقة واحدة حتى ردت عليه: شكراً على التهنئة الجميلة، وستكون سعادتي أكبر إن عرفت مرسلها، كل عام وأنت بألف خير. لم يرد على رسالتها ليعرفها على نفسه، انما ترك لها الوقت طويلا لكي تتنزه في عالم أرحب.”(ص 15- 16) 

تفترض القصة وجود رقمين لجوال شخصية الرجل قديم وجديد، الجديد كان قد أرسل منه سابقاً رسالة واحدة، والآن يرسل من خلاله رسالة جديدة، وقبل مضي دقيقة واحدة يأتيه الرد مع طلب التعرف على المرسل، فماذا يعني هذا؟ 

هل شخصية المرأة (الزوجة أو الحبيبة أو الصديقة) نسيت بأن هذا هو الرقم الجديد للرجل (القرين)؟ 

وهل الرجل بعد ردها ساوره الشك؟ أم أراد أن يوفر لها فرصة التحرر أو الحرية في خيارات أخرى قد تتاح لها؟ 

إذا كان الفضاء في القصة الأولى مكانياً فإن الفضاء هنا زماني بمدلول فيزيائي (ماضي: سبق له أن أرسل..، وحالي: لم تمض دقيقة واحدة..، ومستقبلي: ترك لها الوقت طويلاً..) يمكن أن نسمي حيثيات القصة هنا حيثيات ميتاسردية، رسائل مرسلة من جهاز هاتف نقال، حتى كأن العلاقة بين الشخصيتين تبدو افتراضية أكثر منها واقعية، وبتهكم واضح يمزج النص بين المدلولين الزماني والمكاني (ترك لها الوقت طويلاً لتتنزه في عالم أرحب) فالوقت المقصود هو انتظارها للرد أي التعرف على المرسل، والتنزه هنا صفة مكانية أو فعل يفترض مكاناً، والعالم الأرحب تحتمل الفضائين الزماني والمكاني، وهذه هي المفارقة الدلالية التي بني عليها النص، في إنتاج لعبة سردية تدهش المتلقي وتزجه في حيثياتها.

وفي القصة التي اختيرت عنواناً للمجموعة (يموتون ولا يموت) وظّف القاص حنون مجيد بنية التكرار في ست مسرودات خمس منها متطابقة وتشكل السادسة ضربة النص الأخيرة، إذ تستنخ المسرودة نفسها بتنوع طبقي، يبدأ من أعلى الهرم (الملك/ السلطة) إلى التاجر ثم الخادم، بتدرج طبقي اجتماعي، ثم تنتقل إلى رتبة أخلاقية(الخائن المحتال)، حتى يصل التدرج إلى (الكاتب) وهي ليست طبقة اجتماعية ولا رتبة أخلاقية، بل هو وجود إنساني رمزي نستطيع أن ننفي عنه جميع الصفات الآنفة، فهو لا يمتلك سلطة جبارة ولا مالاً يجلب السعادة، ولا يجيد إجهاد أو توظيف قوته البدنية كالعامل، كذلك هو أسمى من أن يكون خائناً أو محتالاً، المسرودات هنا تختزل سيرة الحياة البايلوجية لطبقات المجتمع والتي تفضي بالضرورة إلى موت بايلوجي، وبلا أية تفاصيل يصبح الوجود غريزياً(أكل، شرب، نوم) تعبيراً عن العدم الوجودي، بينما تكون سيرة الكاتب متعالية عما هو غريزي، سيرة رمزية تمثل الوجود الحقيقي للإنسان (قراءة، كتابة، خلود)، وكأن النص يوصل رسالة بزوال كل شيء عدا العمل الإبداعي أو الفكري الخلاق، فالكاتب بالضرورة يمارس كل غرائزه أسوة ببقية البشر، لكنه يتفوق عليهم بفعلي القراء والكتابة، ثم الخلود الرمزي ببقاء آثاره، الجميع في طريقهم للموت، ينام ثم يموت، بينما الكاتب يصحو، وكأنه يتناص مع مقولة (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) فالموت عند الكاتب صحو وليس زوالاً أو نوماً أبدياً، وهذا التكرار الذي يستدرج فيه النص متلقيه ثم ينحرف بذهنه إلى منعطف دلالي مغاير ومفاجئ ومدهش وغير متوقع قد أكسب النص شعريته، فلو أننا استرسلنا بتعدد مختلف الأصناف الإنسانيَّة في المسرودة ذاتها لخرج النص من مقومات الأدبية، لكن الضربة الأخيرة التي حققت (الانفعال الشعري) بتعبير كوهين منحته سمة الأدبيَّة أو الشعريَّة التي نبحث عنها.